خطاب قديم لـ«السنوار» يعزز أدلة تصفيته «سفينة نوح» التى اغتالت ياسر عرفات
مرڤت الحطيم
كانت سفينة الأسلحة «كارين إيه»، التى أوقفتها إسرائيل فى البحر الأحمر فى يناير 2002 وهى متجهة إلى غزة، لحظة مفصلية فى مسار القضية الفلسطينية، وفى تاريخ الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات 1929-2004.
زعم الإسرائيليون أن عرفات بجلبه هذا الكم من السلاح قد أسقط غصن الزيتون وانحاز للبندقية فى أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ورحل ياسر عرفات يوم 11 نوڤمبر 2004 بعد أن ظل لعقود فى أعلى لوائح الاغتيال الإسرائيلية، فوفق بعض التقديرات وقعت نحو 14 محاولة لاغتياله فى بيروت وحدها فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى.
لقد بدت حادثة «كارين إيه» بحيثياتها ومعانيها وغاياتها فرصة لرئيس الوزراء الإسرائيلى أرييل شارون لضم عرفات مجددًا إلى قوائم الاغتيال، إذ لم يعد الرجل مناسبًا للمرحلة وفق تقديره.
وتشير الوقائع إلى أن السفينة «كارين إيه» بحمولة 50 طنًا من الأسلحة كانت الدافع الأساسى الذى جعل شارون يقرر تصفية عرفات، فالعملية الفلسطينية المعقدة لإيصال تلك الشحنة آنذاك إلى غزة، ونقل جزء منها إلى الضفة الغربية وفق التقديرات الإسرائيلية، كشفت عن مسعى عرفات لتغيير وجه الانتفاضة وتطوير قوّتها ورفع زخمها، وهو ما كان يعنى لإسرائيل تغيير الوقائع على الأرض.
شارون، رأى أن عرفات القائد الذى يسلّح شعبه ويجهز لمقاومة وأنه استنفد أسباب بقائه، وكانت الولايات المتحدة مترددة فى منح إسرائيل الضوء الأخضر لتصفية الرجل الذى فتح أبواب سلام حرصت إسرائيل دائمًا على إغلاقها.
وأضمر شارون مخطط اغتيال عرفات ببطء، وهو محاصر فى مقر السلطة برام الله، من دون إثارة أى شبهات ودون ترك أى بصمات، وفق ما تحدث عنه الصحفى الإسرائيلى رونين بيرجمان فى كتابه: «انهض واقتل أولاً.. التاريخ السرى للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة» الصادر عام 2018.
>البندقية وغصن الزيتون
كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يسعى لإعطاء الانتفاضة 2000-2005 زخمًا أكبر وأقوى فى وجه العنجهية الإسرائيلية، من خلال تسليحها، ويذكر رئيس حركة حماس يحيى السنوار عملية السفينة «كارين إيه» فى هذا السياق بقوله فى خطاب فى مايو 2021: «التحية، كل التحية، للقائد أبو عمار.. لقد قضيت وأنت تحاول تعزيز قدرات شعبنا القتالية بعد كارين إيه.. فذهب إلى خيار جلب السلاح ليحدث شيئًا من النقلة فى موازين القوى بيننا وبين الاحتلال، نمْ قرير العين يا أبا عمار أنت وكل الشهداء».
أدرك الرئيس الراحل ياسر عرفات منذ بداية الانتفاضة أن ما لديه من سلاح لا يترك له حيزًا للمناورة عسكريًا وسياسيًا أمام قوة البطش الصهيونية، واعتبر أن تنظيم ملف التسليح يمنحه ورقة إضافية لدعم الانتفاضة والتحكم بمسارها، ويعطيه أيضًا وزنًا مقابل الفصائل الأخرى المشاركة فى الانتفاضة ميدانيًا، وتبعا لذلك سعى «أبوعمار» إلى تكوين شبكة تضم قيادات فى الأجهزة الأمنية للسلطة، تكون مهمتها شراء السلاح وإيصاله إلى الأراضى المحتلة.
> رصد «المغنية»
وفقًا للمعلومات التى نشرتها الصحف الإسرائيلية، كانت الاستخبارات العسكرية (أمان) قد التقطت أوائل عام 2001 أولى المعلومات اللافتة عن سفينة تبحر من بلغاريا إلى الخليج العربى من دون أى حمولة على متنها، إذ اشتبهت فى أن رحلة طويلة كهذه خاسرة تجاريًا بالنسبة لأى شركة ما يجعلها رحلة مريبة، وهو ما اقتضى عملية رصد ومتابعة لسير السفينة التى أطلق عليها الاسم الكودى «المغنية».
وتوصلت «أمان» أيضًا إلى أن عملية شراء السفينة «ريم كيه» التى يبلغ طولها 96 مترًا وعرضها 14 مترًا قد تمت من شركة فى لبنان أواخر أغسطس2001 لصالح شخص فلسطينى يدعى عادل مغربى، ويعرف أيضًا باسم عادل سلامة، وأبحرت من هناك فى رحلة تمويهية حاملة شحنة مواد غذائية عبر موانئ عدة، بينها اليمن ودبى والسودان، حيث صعد على متنها الطاقم الفلسطينى، ثم توجهت إلى إيران.
كان عادل مغربى عضو حركة فتح يتولى التنسيق مع حزب الله وإيران للحصول على الأسلحة لفائدة السلطة الفلسطينية، وشملت مهامه شراء السفينة وتشكيل طاقم الإبحار والتخطيط بشأن كيفية تخزين الأسلحة وإخفائها وتحميل الأسلحة إلى السفن ونقلها إلى حين تسليمها فى شواطئ غزة.
يوم 11 ديسمبر 2001، وصلت السفينة إلى مرفأ «كيش» فى إيران، ومن هناك حملت بشحنة الأسلحة المعبأة فى حاويات خاصة قابلة للتعويم، ومن ثم أبحرت باتجاه البحر الأحمر، حيث كان من المفترض أن تعبر قناة السويس وتفرغ حمولتها (الحاويات العائمة) أمام سواحل قطاع غزة ليتم التقاطها من البحرية الفلسطينية، لكن الوحدة البحرية «شايطيت 13» الإسرائيلية نفذت إنزالا على ظهر السفينة فى الثالث من يناير 2002 فى موقعها على بعد 500 كيلو متر من خليج العقبة، واقتادتها إلى ميناء إيلات أم الرشراش.
وأضفى الإعلام الإسرائيل هالة من البطولة على العملية التى سموها «سفينة نوح»، والتى أدت إلى مصادرة شحنة الأسلحة التى شملت صواريخ «كاتيوشا»، وقاذفات «آر بى چى»، ومدافع وقذائف هاون، وألغاما أرضية، وصواريخ مضادة للدروع من نوع «ساجر»، ورشاشات كلاشينكوف، بالإضافة إلى معدات غوص حديثة.
أوقفت البحرية الإسرائيلية أيضا 12 فردًا من طاقم السفينة، من بينهم قبطانها اللواء عمر عكاوى، بالإضافة إلى 3 آخرين من عناصر الشرطة البحرية الفلسطينية، و8 بحارة مصريين تم إطلاق سراحهم لاحقًا لعدم ضلوعهم في العملية. ورغم الادعاءات الإسرائيلية المبالغ فيها، فإن تقريرًا لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يظهر أن الولايات المتحدة ساعدت الإسرائيليين بشكل كبير فى العملية منذ مرحلة البحث عن السفينة وصولا إلى الحصول على مخططاتها ثم تحديد مسارها.
>استهداف عرفات
استغل أرييل شارون حادثة السفينة «كارين إيه» لتكثيف الضغوط على الرئيس ياسر عرفات وإضعافه سياسيا، وتشويه صورته لدى الإدارة الأمريكية، فى وقت كانت فيه علاقته متوترة أصلا مع واشنطن بعد رفض تقديم أى تنازلات.
وركزت إسرائيل على تعاونه فى جلب السلاح مع إيران وحزب الله لإثارة الولايات المتحدة ضده، وتعهد عرفات بإجراء تحقيقات فى قضية السفينة بعد ضغوط أمريكية ودولية، وتم تحميل العميد فؤاد الشوبكى المسئولية العلنية، لكنه رفض تسليمه إلى أجهزة الأمن الإسرائيلية، وأبقاه فى مقر المقاطعة برام الله فى أثناء عملية «السور الواقى»، قبل أن يتم نقله إلى سجن أريحا تحت حراسة أمريكية وبريطانية، لكن إسرائيل عمدت إلى اختطافه عام 2006 واعتقاله حيث قضى 17 سنة متنقلا بين سجونها.
وشكلت التحولات الدولية والتغيرات مجرى الانتفاضة على الأرض بعد «كارين إيه»، وكان بلوغ عدد القتلى الإسرائيليين 133 خلال مارس 2002 دافعا لحكومة شارون للإقدام على اجتياح برى للضفة الغربية فى عملية «السور الواقى»، وفرض حصار على عرفات فى مقر إقامته فى برام الله.
وأراد أرييل شارون تغيير وجه القضية الفلسطينية ووأد الانتفاضة بتصفية رموزها، وقادتها، وجاءت وفاة الرئيس ياسر عرفات يوم 11 نوڤمبر 2004 لاحقة لاغتيال مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين يوم 22 مارس 2004، ثم عبد العزيز الرنتيسى أحد مؤسسى الحركة يوم 17 أبريل 2004.
وتشير معطيات كثيرة إلى أن حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات بالمقاطعة فى رام الله كان تمهيدا لتصفيته سياسيا ثم جسديا، ولم تعترف إسرائيل باغتياله، ولم تفعل مع كل عمليات الاغتيال، لكن صراعه المفاجئ مع مرض غامض ناجم عن سم أو مادة إشعاعية كان يحمل بصمات شارون.>