الطريق الثالث.. استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى الشرق الأوسط (14) أول تمويل عربى لـ«انتخابات الرئاسة الأمريكية» فى مواجهة إسرائيل
أعادت انتخابات الرئاسة الأمريكية التى أعلنت نتائجها الأولية قبل أيام، الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض محققًا انتصارًا ساحقًا على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، فى منافسة انتخابية غير مسبوقة منحها الثالوث الرئاسى (ترامب- هاريس- بايدن) تجربة استثنائية يصعب تكرارها.
وبفوز ترامب يصبح ثانى رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة يشغل المنصب لفترتين غير متتاليتين بعد الرئيس السابق جروفر كليفلاند فى نهاية القرن التاسع عشر، أى قبل 132 عامًا، كما سيكون ترامب أول رئيس فى التاريخ يفوز بعد إدانته جنائيًا بارتكاب العديد من الجرائم الفدرالية وعلى مستوى الولايات. وتميزت هذه الانتخابات بإحداث فارقة غيرت مسارها، حيث شهدت إجبار رئيس حالى فى البيت الأبيض على الانسحاب من الترشح لمدة رئاسية ثانية قبل 3 أشهر فقط من السباق، رغم فوزه بالانتخابات التمهيدية ونيله دعم مؤسسات الحزب الديمقراطى ومؤتمره العام، وكذلك محاولة الاغتيال الفاشلة التى أعطت المرشح الجمهورى دونالد ترامب قوة دفع دعائية كبيرة، وحولته من متهم مدان إلى بطل شعبى، وجعلت جموع الشعب الأمريكى تسقط عنه أحداث الشغب الشهيرة عقب رفضه نتائج الانتخابات الماضية والتى وصلت إلى اقتحام مبنى الكابيتول فى يناير 2021، وكانت السبب فى مطاردته قضائيًا.
ترامب وإسرائيل
وكان اليأس العربى والمصرى من وجود فارق جوهرى بين ترامب وهاريس فيما يتعلق بالقضايا الملحة فى الشرق الأوسط من أسباب عدم الاكتراث الشعبى بما يجرى فى أمريكا. فكلا المرشحين أعلنا عهد الولاء التام لإسرائيل بالحفاظ على أمنها ودعمها المطلق، وهو ليس دعم محبة وتدين كما يظن البعض، لكنها علاقات مصالح تؤسس لها جماعات مصالح أو ما يسمى بـ«اللوبي». وكلنا يعرف دور اللوبى الصهيونى فى أمريكا وتوغله فى مفاصل الإدارات الأمريكية المتعاقبة وقدراته على التأثير فى القرار الأمريكى.
فيما لجأ العرب والمسلمون من الأمريكيين إلى التصويت العقابى ضد الحزب الديمقراطى بسبب ما قامت به إدارة بايدن فى دعم سخى لإسرائيل فى حربها على غزة، فمنحوا أصواتهم لترامب مضطرين، وقد ساعده ذلك على حسم الولايات المتأرجحة لصالحه، خاصة فى ميشجان وبنسلفانيا وجورجيا.
السادات ونيسكون
وقد انشغل العرب منذ عقود بالنفوذ الصهيونى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان الرئيس الراحل محمد أنور السادات سباقًا فى محاولة التوغل بدهاء بين جماعات التأثير على القرار الأمريكى، وبدأ خطواته الأولى مبكرا فى التسلل إلى أروقة السياسة الأمريكية منذ عامه الأول فى الحكم، مؤسسًا لما عرف بعد ذلك بقنوات الاتصال السرية، ثم كانت الخطوة الثانية بالتفكير فى اختراق جمود العلاقات المصرية - الأمريكية بدعم مالى لحملة الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، وكانت الفكرة للملك السعودى الراحل فيصل بن عبدالعزيز، بمشاركة مالية من أمير الكويت، وقصد الزعماء الثلاثة بفكرتهم إيجاد مساحة للعرب بين دوائر صنع القرار الأمريكى.
هيكل وسر التمويل
وفى مقال بعنوان: «أموال تلعب فى السياسة»، المنشور بتاريخ 17 فبراير 1997، يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه «المقالات اليابانية»: «إننى سوف أشير إلى تجربة شخصية مباشرة عشتها بنفسى، ذات يوم من ربيع سنة 1972 ووقتها كان الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون يرشح نفسه لمدة رئاسية ثانية، ودعانى الرئيس أنور السادات (وكنت يومها من أقرب الناس إليه) إلى مقابلته فى بيته، وقال لى بلهجة درامية إنه يريد أن يتحدث معى فى أمر شديد السرية. ومبالغة فى دراما السرية فقد أخذنى الرئيس إلى ركن فى حديقة بيته أقيم فيه كشك صغير، كان يجلس فيه لشرب الشاى. وبدأ رئيس السادات فأشار إلى التعقيدات المحيطة بأزمة الشرق الأوسط بسبب الانحياز الأمريكى الكامل لإسرائيل، ثم أرجع الرئيس جزءًا من هذا الانحياز إلى التبرعات التى يقدمها اللوبى الصهيونى لمرشحى الرئاسة ومرشحى الكونجرس ثم وصل فى نهاية عرض طويل بعض الشيء إلى القول بأنه يتعين علينا الآن أن نفعل مثل ما يفعل اليهود، هكذا قال».
ويستطرد الأستاذ فى رواية كاشفة عن أسرار أول دعم عربى لحملات المرشحين فى الرئاسة الأمريكية، مؤكدًا أنه أقنع الرئيس السادات بعدم المشاركة مع كل من السعودية والكويت فى تقديم دعم قدره 12 مليون دولار لحملة نيسكون، أوصلها لهم عدنان خاشقجى رجل الأعمال السعودى المعروف، ذو الصلات الواسعة فى واشنطن، ويقول هيكل أنه سأل الرئيس السادات، كيف سيصل المبلغ، فأجابه بحسب رواية الأستاذ فى كتابه، قائلا: «سوف يأخذ عدنان المبلغ فى حقيبة، وسوف يسلم الحقيبة إلى نيكسون شخصيًا». وكان رأى هيكل: «أن هذه لعبة خطر، وأفضل أن تبقى مصر بعيدا عنها»، ويؤكد الأستاذ أن الرئيس اقتنع بوجهة نظره وقتها، لكنه عاد بعد أسابيع يتهمه بأنه أضاع فرصة مهمة.
ناصر ونيكسون
ويحكى الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه «عبدالناصر والعالم»، عن زيارة الرئيس إلى نيويورك فى سبتمبر 1960 لحضور جلسات الدورة السنوية للأمم المتحدة، وكانت الانتخابات الأمريكية مشتعلة بين المرشح الجمهورى ريتشارد نيكسون والمرشح الديمقراطى جون كينيدى.
ويصف «هيكل» فى كتابه زيارة الرئيس المصرى لنظيره الأمريكى دوايت آيزنهاور (1953 - 1961) فى فندق «والدورف استوريا»، ثم يذكر أن حديثهما انتقل إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وكان عبدالناصر قد أمضى معظم أمسياته فى نيويورك يتابع على شاشة التليفزيون تطورات الحملة الانتخابية، ويضيف هيكل: «سأل عبدالناصر الرئيس أيزنهاور عمن يعتقد أنه سيخلفه، فقال أيزنهاور إنه يفضل ألا يخوض فى الموضوع، وإن كان يمكن استنتاج اسم المرشح الذى يميل إليه، رد الرئيس المصرى موضحًا إنه سيجد صعوبة فى الاختيار إذا حدث وطلب إليه أن يُدلى بصوته فى الانتخابات، لأنه يشعر أن كينيدى أكثر فتوة وتحررًا، لكنه مثل آيزنهاور يفضل أن يعطى صوته لنيكسون، لأنه كان نائب الرئيس الأمريكى المساند لمصر أثناء أزمة السويس عام 1956».
وخسر نيكسون (الجمهوري) هذه الانتخابات لكنه عاد بعد 8 سنوات وبسبب الخسائر الأمريكية فى فيتنام عام 1968، تم انتخابه رئيسًا لبلاده للمرة الأولى، بعد سنوات طويلة من الصبر للوصول للمنصب المرموق. ولكن استمرار الحرب فى فيتنام وعدم قدرته على حسم أمرها، وقف حائلا بينه وبين الولاية الثانية، والتى جرت منافستها فى مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر سنة 1972 وكان ينافسه فيها المرشح الديمقراطى جورج ماكجفرن، واستخدم نيسكون فى هذه المنافسة ما عرف بعد ذلك بـ«مفاجأة أكتوبر» فى انتخابات الرئاسة الأمريكية والتى نجحت فى تغيير دفة التصويت لصالح نيكسون، وكانت تتعلق بالتوصل لاتفاق ينهى الحرب فى فيتنام، وهو ما لم يحدث فى حينه، لكنه تم فى سنة 1975.
ويبدو أن نوايا نيكسون لم تكن خالصة، فلم ينفعه الدعم المالى العربى ولا «خدعة أكتوبر»، وحتى لم تفلح الزيارة الأسطورية التى نظمها له الرئيس السادات إلى مصر وخرج من البيت الأبيض مستقيلًا سنة 1974 بعد فضيحة «ووتر جيت» الشهيرة، التى فجرها عميد الصحافة الاستقصائية بوب ودورد.
وهى الفضيحة التى استغلها شاعرنا الفاحومى الراحل أحمد فؤاد نجم ليبدع قصيدته الشهيرة «شرفت يا نيكسون بابا»، والتى تحولت إلى واحدة من أروع أغنيات المقاومة الشعبية ضد الهيمنة الأمريكية، والتى لحنها الشيخ إمام، ويقول مطلعها: «شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر جيت/ عملولك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت/ فرشوا لك أوسع سكة من راس التين على مكة/ وهناك تنفد على عكا ويقولوا عليك حجيت».