فى مهب الريح.. خفض توقعات نمو الاقتصاد العالمى فى 2025
داليا طه
على الرغم من تحسن توقعات النمو على المدى القريب، لا تزال الآفاق العالمية غير مبشرة وفق المعايير التاريخية، وفى الفترة 2024-2025، من المتوقع أن يتراجع أداء النمو عن المتوسط الذى كان سائدًا فى 2010 فى نحو 60 % من الاقتصادات التى بها أكثر من 80 % من سكان العالم.
ويتصدر المشهد مخاطر التطورات السلبية، لا سيما التوترات الجيوسياسية، وتفتت النشاط التجارى، وارتفاع أسعار الفائدة لفترات أطول.
وأوضح صندوق النقد فى تقرير عن توقعات مستقبل الاقتصاد العالمى أنه يتوقع نمو الاقتصاد العالمى بنسبة 3.2 بالمئة خلال العام الجارى، دون تغيير عن التوقعات فى التقرير السابق.
إلا أن التقرير خفض من توقعات النمو خلال العام 2025 بنحو 0.1 بالمئة، لتبقى دون تغيير عن توقعات عام 2024 عند 3.2 بالمئة أيضا.
وكشف التقرير عن توقعات النمو لدول العالم، إذ توقع صندوق النقد الدولى أن ينمو اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجارى بنسبة 2.8 بالمئة، وبنحو 2.2 بالمئة خلال العام القادم، وذلك فى زيادة عن التوقعات الصادرة فى شهر يوليو الماضى.
بينما خفض صندوق النقد توقعات النمو فى منطقة اليورو إلى 0.8 بالمئة خلال العام الجارى، و1.2 بالمئة خلال العام 2025.
كما خفض التقرير أيضا توقعات النمو الاقتصادى فى الصين إلى 4.8 بالمئة خلال العام الجارى، لكنه أبقى التوقعات دون تغيير خلال العام المقبل عند 4.5 بالمئة.
وفى المنطقة العربية، خفض صندوق النقد توقعاته لنمو الاقتصاد السعودى خلال العام الجارى إلى 1.5 بالمئة، وتوقع أن ينمو بنسبة 4.6 بالمئة خلال العام القادم.
كما كشف التقرير عن توقعات بنمو اقتصاد الإمارات بنسبة 4 بالمئة خلال العام الجارى، وبنسبة 5.1 بالمئة خلال العام 2025.
معركة التضخم
وكشف تقرير صندوق النقد الدولى أن العالم قد تمكن من الفوز فى المعركة العالمية ضد التضخم إلى حد كبير، على الرغم من استمرار ضغوط الأسعار فى بعض البلدان.
وأوضح أن معدلات التضخم قد تراجعت عالميا، «فبعد أن بلغت ذروتها عند 9.4 بالمئة على أساس سنوى فى الربع الثالث من عام 2022، من المتوقع الآن أن تصل معدلات التضخم الكلى إلى 3.5 بالمئة بحلول نهاية عام 2025، وهو أقل من المستوى المتوسط البالغ 3.6 بالمئة بين عامى 2000 و 2019.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من التشديد الحاد والمتزامن للسياسة النقدية فى جميع أنحاء العالم، فقد ظل الاقتصاد العالمى مرنًا بشكل غير عادى طوال عملية الانكماش، متجنبًا الركود العالمى.
وفى حين أن الانخفاض العالمى فى التضخم يشكل علامة فارقة رئيسية، فإن المخاطر السلبية آخذة فى الارتفاع وهى تهيمن الآن على التوقعات، وأبرزها تصعيد الصراعات الإقليمية، وبقاء السياسة النقدية متشددة لفترة طويلة جدًا، واحتمال عودة التقلبات فى الأسواق المالية مع تأثيرات سلبية على أسواق الديون السيادية، بجانب حدوث تباطؤ أعمق فى النمو فى الصين، والاستمرار فى تصعيد السياسات الحمائية بين الدول».
وفى الاقتصادات المتقدمة، يتسم النمو فى الولايات المتحدة بالقوة، حيث بلغ 2٫8 % هذا العام، لكنه سيتحول نحو مستواه الممكن فى 2025. وفى الاقتصادات الأوروبية المتقدمة، يُتوقع انتعاش النمو بدرجة طفيفة العام القادم، مع اقتراب الناتج من مستواه الممكن. وتتسم آفاق النمو بدرجة كبيرة من الاستقرار فى اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، فتبلغ 4,2 % هذا العام والعام القادم، مع استمرار قوة أداء اقتصادات آسيا الصاعدة.
وتراجع التضخم بدون حدوث ركود عالمى يمثل إنجازًا كبيرًا، حيث تأتى الطفرة فى التضخم ثم ما تلاها من تراجع انعكاسًا لمزيج فريد من الصدمات التى تمثلت فى الاضطرابات فى سلاسل الإمداد على نطاق واسع مقترنة بضغوط الطلب القوية فى أعقاب الجائحة، تلتها زيادات حادة فى أسعار السلع الأولية بسبب الحرب فى أوكرانيا.
وأدت هذه الصدمات إلى تحول نحو الصعود وزيادة انحدار العلاقة بين النشاط الاقتصادى والتضخم، وفقا لمنحنى فيليبس. وفى ظل انخفاض حدة الاضطرابات فى سلاسل الإمداد، وبدء تشديد السياسات النقدية لتقييد الطلب، أتاحت عودة أسواق العمل إلى أوضاعها الطبيعية تراجع التضخم بسرعة بدون حدوث تباطؤ كبير فى النشاط الاقتصادى.
ومن الواضح أن جزءًا كبيرًا من تراجع التضخم يمكن أن يُعزى إلى تراجع حدة الصدمات نفسها، وما اقترن به من تحسن فى عرض العمالة، الذى ارتبط بزيادة الهجرة فى كثير من الأحيان. إلا أن السياسات النقدية كان لها دور حاسم أيضا من خلال المحافظة على ثبات توقعات التضخم، وتجنب دوامات الأجور والأسعار الضارة وتكرار تجربة التضخم الكارثية التى حدثت فى حقبة السبعينات.
وبرغم الأخبار الجيدة عن التضخم، فإن مخاطر التطورات السلبية آخذة فى التزايد وأصبحت الآن مهيمنة على الآفاق. ويمكن لتصاعد الصراعات الإقليمية، ولا سيما فى الشرق الأوسط، أن يفرض مخاطر كبيرة على أسواق السلع الأولية. أما التحولات نحو السياسات التجارة والصناعية غير المرغوب فيها فيمكن أن يخفض الناتج بشكل كبير مقارنة بتوقعاتنا فى السيناريو الأساسى. وقد تظل السياسة النقدية مفرطة التشديد لفترة طويلة للغاية، كما أن الأوضاع المالية العالمية قد تشتد فجأة.
وعودة معدلات التضخم لتقترب من الأهداف التى وضعتها البنوك المركزية تمهد الطريق لتحول السياسات على ثلاثة محاور. وسوف يقدم ذلك متنفسا تشتد الحاجة إليه على مستوى الاقتصاد الكلى، فى وقت لا تزال المخاطر والتحديات فيه مرتفعة.
وانخفاض أسعار الفائدة فى الاقتصادات الكبرى سيخفف الضغوط على اقتصادات الأسواق الصاعدة، مع تعزيز عملاتها مقابل الدولار الأمريكى وتحسن الأوضاع المالية. ومن شأن هذا الأمر أن يساعد على الحد من الضغوط التضخمية القادمة من الخارج، ما يجعل من الأسهل على هذه البلدان مواصلة مسارها الخاص لخفض التضخم.
على الرغم من هذا، يظل توخى الحذر أمرا مهما. ولا يزال تضخم أسعار الخدمات مرتفعا للغاية، ويبلغ تقريبا ضعف المستويات التى كان عليها قبل الجائحة. ويواجه عدد قليل من اقتصادات الأسواق الصاعدة ارتفاعا فى الضغوط التضخمية مرة أخرى كما بدأت مجددا فى رفع أسعار الفائدة الأساسية.
وعلاوة على هذا، فإننا اليوم فى خضم عالم تسوده اضطرابات سلاسل الإمداد - بسبب تغير المناخ، والأوضاع الصحية، والتوترات الجغرافية السياسية. ودائما ما يكون احتواء التضخم أصعب على السياسة النقدية عندما تواجه هذه الصدمات، والتى تؤدى بشكل متزامن إلى ارتفاع الأسعار والحد من الناتج.
وأخيرًا، فى حين ظلت توقعات التضخم ثابتة بالفعل فى هذه المرة، فقد تصبح أكثر صعوبة فى المرة التالية، لأن العمال سيكونون أكثر حذرا بشأن حماية أجورهم والشركات فى حماية أرباحها.
أما التحول الثانى فهو فى سياسة المالية العامة. فالحيز المالى هو حجر الزاوية فى الاستقرار الاقتصادى الكلى والمالى. وبعد سنوات من انتهاج سياسة مالية تيسيرية فى كثير من البلدان، آن الأوان لتثبيت ديناميكيات الدين وإعادة بناء هوامش الأمان المالى التى تشتد الحاجة إليها.
وعلى الرغم من أن تراجع أسعار الفائدة الأساسية يوفر بعض التخفيف فى أعباء المالية العامة عن طريق خفض تكاليف التمويل، لن يكون هذا الأمر كافيا، لا سيما وأن أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الجائحة. وفى كثير من البلدان، يتعين تحسين الأرصدة الأولية (وهى الفرق بين إيرادات المالية العامة والنفقات العامة بعد خصم خدمة الدين).
وفى بعض البلدان، منها الولايات المتحدة والصين، لا تؤدى خطط المالية العامة الحالية إلى استقرار ديناميكية الدين، أما فى بلدان أخرى كثيرة، فعلى الرغم من أن خطط المالية العامة المبكرة كانت مبشرة فى أعقاب أزمتى جائحة كوفيد-19 وارتفاع تكلفة المعيشة، توجد مؤشرات متزايدة على خروجها عن المسار المحدد.
والحقيقة أن المسار ضيق. فإرجاء الضبط المالى يزيد من خطر حدوث تصحيحات غير منظمة تفرضها أوضاع السوق، فى حين قد يكون التحول البالغ الحدة نحو التشديد المالى مثبطا لذاته ويلحق ضررا بالنشاط الاقتصادى.
عمليات تصحيح
والنجاح يقتضى تطبيق عمليات تصحيح متعددة السنوات مستمرة وذات مصداقية دون تأخير، حيث يكون الضبط ضروريًا. وكلما كان التصحيح المالى أكثر مصداقية وانضباطا، يمكن للسياسة النقدية أن تقوم بدور داعم من خلال خفض أسعار الفائدة الأساسية مع إبقاء التضخم قيد الاحتواء. ولكن، كان هناك افتقار إلى الرغبة والقدرة على تنفيذ عمليات تصحيح منضبطة وذات مصداقية.
والتحول الثالث - والأصعب - نحو الإصلاحات المعززة للنمو. فلا يزال يتعين بذل جهود أكبر بكثير لتحسين آفاق النمو وزيادة الإنتاجية، لأن هذا هو السبيل الوحيد الذى يمكننا به التصدى للتحديات الكثيرة التى نواجهها؛ أى إعادة بناء هوامش الأمان المالى، ومواجهة مسألة شيخوخة السكان وتراجع النمو السكانى فى مناطق كثيرة من العالم، والتعامل مع التحول المناخى، وزيادة القدرة على الصمود، وتحسين مستوى معيشة الفئات الأكثر عرضة للخطر، داخل البلدان وفيما بينها على حد سواء.
آفاق النمو ستظل ضعيفة لخمس سنوات من الآن، فلا تتجاوز 3,1 %، وهى أدنى نسبة منذ عقود. وفى حين يعكس جانب كبير من هذا الأمر آفاق النمو الأضعف للصين، تدهورت أيضا التوقعات على المدى المتوسط فى مناطق أخرى، منها أمريكا اللاتينية والاتحاد الأوروبى.