الطريق الثالث.. استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى الشرق الأوسط (13) هل دمرت إسرائيل «مدافع آية الله»؟
فى كتابه الأول الصادر سنة 1951 بعنوان «إيران فوق بركان»، يصف الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، رحمه الله، حال المنطقة قائلا: «ثمة حقيقة رهيبة قابلتها فى كل عواصم الشرق الأوسط!، قابلتها فى طهران كما قابلتها فى دمشق، وطالعتنى فى القاهرة كما طالعتنى فى بغداد، ورأيتها فى بيروت كما رأيتها فى عمان، تلك الحقيقة هى أن مشاكل هذا الجزء من العالم واحدة، فمهما تعارجت خطوط حدوده، ومهما تعددت أسماء عواصمه، ومهما اختلفت طبائع أهله ولهجاتهم، مهما يكن من أمر ذلك كله، فإنه يخضع لنفس المؤثرات، وتتقاذفه نفس التيارات، وتمزقه نفس المؤامرات وتفترسه نفس القوى».
هل بعد أكثر من سبعين سنة من سطور هيكل السابقة، ما يزال الشرق الأوسط على حاله، هل ما زالت تمزقه نفس المؤامرات وتفترسه نفس القوى؟، للأسف الإجابة نعم، فما تشهده المنطقة منذ أكثر من عام، وما ينتظر المنطقة خلال الشهور القادمة، هو أسوأ مما توقعه أكثر المتشائمين لهذه المنطقة، دائرة مغلقة من الصراعات لم تخرج منها، منذ تم زرع الكيان الصهيونى ومنحه شرعية الوجود الأممى سنة 1948، وكأن شعوب المنطقة قد أمسكت «سلك كهرباء عارى»، بعد أن أطلق مجنون آلاف الفئران المشتعلة ذيولها فى برارى وحقول الشرق الأوسط، فأمست حرائقه لا تنطفئ وشعوبه لا تلتقط أنفاسها، حتى بعد أن تموت.
توم وجيري
«تبدو العلاقة بين إيران وإسرائيل منذ قيام ثورة الخمينى عام 1979، كصراع مثير بين قط وفأر على طريقة المسلسل الكرتونى الشهير «توم وجيري»، لهذا فإن تجريد الصراع بين الدولتين من مظاهره المطروحة على المشهد السياسى، يكشف لنا حقيقَتَه؛ فهو صراعُ وجود.. يبحث عن حدود، فكلتا الدولتين لا يتوقف طموحها داخل إطار الجغرافيا، كلتاهما يداعبها حلم «الدولة الكبرى» المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وكلتاهما استمدت مشروعية وجودها من خطاب دينى متطرِّف يتضمن الحضَّ على كراهية ومعاداة الآخر».
السطور السابقة هى جزء من مقال قديم نشرته لى مجلتنا الغراء فى 28 أكتوبر سنة 2017، وكانت مدخلى للحديث عن صراع العصر بين إيران وإسرائيل، وكان عنوان المقال «صراع (توم وجيري) فى الشرق الأوسط»، والذى تغير فيه فقط بعد هذه السنوات السبعة التى مرت علينا منذ نشر المقال هو حرف الجر، فيصح أن يكون (على) بدلا من (في)، بعد أن تحول صراع الطرفين من معركة داخل الإقليم المنكوب، إلى صراع عليه، باقتسام النفوذ فيه وإعادة تشكيل خرائطه وفق مصالح كل طرف.
وختمت المقال وقتها بكلمات موحية: بأن «الصراع مستمر، ولن ينتهيَ مثلَ كل صراعات «توم وجيري» التى تسلِّينا فى بلاد العرب، سعداء بما يفعله الفأر الصهيونى الماكر بالقطِّ الشيعى الغادر، رغم أن هذا الصراع يدور على أرضنا، ويقرر مصيرنا».
جذور الصراع!؟
واستكمالا لتحليل جذور الصراع بين إيران وإسرائيل، كما ذكرتها فى مقالى القديم: «فى الوقت الذى تقاتل فيه إيران من أجلِ الحصول على عضوية النادى النووى، فإن إسرائيل تتربَّص بها لتعرقِلَ مسعاها نحو امتلاك هذه القدرة السحرية، التى يمكن أن تصعَدَ بدولة «الولى الفقيه» إلى مصاف الكبار. حيث يضم النادى الحصرى للقوى النووية تسعة أعضاء، تتقدمها روسيا وأمريكا وتمتلكان أكثر من 90 % من المخزون العالمى للأسلحة النووية، ومعهما سبع دول هي: بريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية، ويقدر اتحاد العلماء الأمريكيين عدد الرؤوس النووية المنتشرة والجاهزة للاستخدام بنحو 4 آلاف».
أما وبعد هذه السنوات السبعة الماضية وقد تحول الصراع إلى مواجهة مباشرة، توجها الأسبوع الماضى هجوم إسرائيلي قوي على طهران العاصمة وتدمير دفاعات جوية وبنية عسكرية، بما ينذر باتساع رقعة المواجهة.
هجوم السبت
اختار نتنياهو أقل البدائل تكلفة، من بين خيارات متعددة وضعتها أمام أجهزته الأمنية والمخابراتية، وهو يتمنى أن ترد إيران بل وتسرع فى ردها، لتمنحه غطاء شرعيا ليوسع من نطاق أهدافه، ويجعلها حربا مفتوحة يورط فيها أمريكا، ويحقق حلما تمنى تحقيقه طوال السنوات الماضية، بالقضاء على المشروع النووى الإيرانى وقطع أذرعها الممتدة بالمنطقة، وربما تكتمل أمانيه بسقوط نظام الملالى فى إيران.
ولكن ما حجم الضرر الذى أحدثته الضربة الإسرائيلية الأخيرة لأنظمة الدفاع الجوى فى طهران ومدى تأثير ذلك على قدرات إيران المستقبلية، وهل سترد إيران على الرد الأخير لإسرائيل، أما أنها ستنتظر ما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية، ويكون لكل حادث حديثه!؟
ويجيبنا على سؤال اللحظة قائد الحرس الثورى الإيرانى حسين سلامى، الذى توعد إسرائيل بـ«عواقب مريرة»، فى تصريحات إعلامية متداولة. وفى المقابل؛ أكد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن «الهجوم على إيران لم ينته بعد.. وستكون هناك تكملة»، ورغم هذه التصريحات النارية (العنترية) المتبادلة من الطرفين، فإن إيران وإسرائيل كلتاهما كما بدا من هجومى أكتوبر المتبادلين، قد خضعتا صاغرتين للعمل تحت السقف الأمريكى، إلى الآن.
فلقد ابتعد جيش الاحتلال الإسرائيلى فى هجوم السبت الماضى عن المواقع النووية ومنشآت الطاقة، فى إشارة إلى عدم نيته إلى التصعيد وإن كان واردا أن يكون العكس صحيحا وأن يكون الرد الإسرائيلى المحدود جزءا من خطة تمويه تكتيكية، خاصة إذا انتبهنا إلى تصريحات أخرى لنتنياهو يؤكد فيه أن محددات هجوم إسرائيل وأهدافه، قد تم اختيارها «بناء على مصالحها الوطنية».
مدافع آية الله
وفى كتابه المهم «مدافع آية الله- قصة إيران والثورة» السادر سنة 1982، يقول الأستاذ هيكل: «فى إحدى لحظات الحماسة، قال الخمينى إن بإمكانه أن يحول الخليج إلى كرة من النيران «أن جرؤ أحد على المساس بنا»، وسواء وضع هذا التهديد موضع التنفيذ أم لا فمما لا شك فيه أن أصوات مدفعية الخمينى لم تترك أصداء منذرة بالسوء فى مكان ما أكثر ما تركت فى الخليج».
تهديد الإمام الخمينى كان ذريعة استغلتها الولايات المتحدة الأمريكية، للاستقرار العسكرى بشكل مستمر فى أماكن متعددة فى محيط الخليج العربى منذ ثمانينيات القرن الماضى، بحجة تقليدية قديمة، حماية أمن المنطقة، لكن منطقتنا المنكوبة لم تنعم بيوم واحد مستقرة منذ أن رضيت مستسلمة بالبقاء تحت وطأة هذا النفوذ الأمريكى.
وختاما، لا شك أن إيران قبل الثورة وبعدها، ستبقى رقما مهما فى معادلة الحرب والسلام بالمنطقة، ورغم ما حققه «الفأر الصهيونى» من انتصارات ومفاجآت فى عام الطوفان، إلا أن «القط الشيرازى» ما يزال قادرًا على تحمل المزيد.