نموذج استثنائى فى العلاقات الدولية: «القاهرة - الرياض» خط أحمر
الرياض صبحى شبانة
تتميز العلاقات المصرية - السعودية بأنها علاقات راسخة وصلبة ومتفردة، فكما أن جذورها ضاربة فى أعماق التاريخ، فإن الروابط بين الشعبين الشقيقين تزداد نموا واتساعا واتساقا أشبه بمتوالية هندسية، ودوائر مترابطة لا نهائية لا تنفصم عروتها الوثقى، رغم حيل وألاعيب «الأعدقاء» والمغرضين.
الشواهد على ديمومة العلاقات المصرية - السعودية تفيض بها كتب التاريخ، منحوتة على جغرافيا صلبة ممتدة آثرت أن تتجاوز بفعل فضيلة عبقرية وإرادة الشعبين الشقيقين معا عوائق وجزر وفواصل البحر الأحمر، لتشكل تلاحما يعمق من حالة الخصوصية الاستثنائية التى تنفرد بها الدولتان الشقيقتان، اللتان تحملان على عاتقهما أعباء معاناة العبور المضنى لتتجاوز الأمة محنتها وأزمتها التاريخية التى تكاد أن تعصف وتطيح بها، لولا حكمة ودهاء الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى يقود مصر بحنكة ومهارة، ويعالج مشكلاتها المزمنة والعصية بإعجاز ووحى وإلهام، وولى العهد رئيس مجلس الوزراء السعودى الأمير محمد بن سلمان الذى غير وبدل فى معادلات وموازين القوى الدولية، وباتت بلاده محط أنظار العالم الذى يرنو إليها بزهو وإعجاب، ويقتفى أثر تجربتها الثورية فى مجالات الثقافة والفنون والتحديث والعصرنة.
مصر والسعودية دولتان هما النموذج فى كل العصور رغم حالات المد والجزر التى تعضد من عناصر الوحدة، وتزيد من لحمة التماسك والتمازج «السوسيولوجى» بين الشعبين على مر العصور، حُقب من خلف حُقب فى سلسلة زمانية متصلة، أجيال اختلط حمضها النووى بفعل التزاوج والأنساب والعيش المشترك على مر عصور ممتدة منذ أن أرسى أبو الأنبياء إبراهيم قواعد البيت، ومنذ أن تفجرت ينابيع مياه زمزم تحت أقدام هاجر المصرية إيذانا ببدء الحياة فى الصحراء الموحشة القاحلة، ومن بعدها رسم ولدها إسماعيل الخريطة الجينية لخير أمة أخرجت للناس، يعرف السعوديون قدر مصر، وكذلك المصريون يحملون نفس القدر لإخوتهم السعوديين، تاريخ مشترك، دين واحد، ثقافة واحدة.. حول خارطة الدولتين تشكل العالم، وعلى كواهل الشعبين الشقيقين تكونت الأمة العربية.
تحديات مشتركة
تتسم العلاقات المصرية - السعودية بالرصانة والديمومة والرسوخ، والعمق التاريخى، والتعاون الاستراتيجى، والتنسيق الدائم، والتشاور المستمر حيال جميع القضايا العربية والإقليمية والدولية، بهدف دعم وتعزيز الأمن والاستقرار فى المنطقة والعالم، نظرًا لموقعهما الجيوستراتيجى المتميز، فإذا كانت الجغرافيا هى قدر الأمم، فهى أيضا العنصر الثابت فى صناعة التاريخ، والعامل الحاسم فى تحديد ملامح المستقبل، وفى هذا السياق جاءت زيارة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان إلى مصر يوم الثلاثاء الماضى امتدادا للزيارات المتبادلة والتشاور الدائم والمستمر بين القيادات فى البلدين الشقيقين، وتلبية للدعوة الكريمة التى وجهها إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى، وقدمها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى أثناء زيارته العاصمة السعودية الرياض فى منتصف سبتمبر الماضى، وجاء لقاء الزعيمين الكبيرين الرئيس عبدالفتاح السيسى، وشقيقه ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان فى وقت بالغ الخطورة تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط تحولا كبيرا، وتصعيدا متسارع الوتيرة للحرب الدامية التى تشنها إسرائيل على كل من قطاع غزة وجنوب لبنان، والتصعيد المتزايد فى سياسة حافة الهاوية بين إسرائيل وإيران، ومن أجل حقن الدماء وعودة الاستقرار فى المنطقة تعمل مصر والسعودية بتناغم كامل منذ القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية التى احتضنتها الرياض قبل نحو عام، للتحرك دولياً لوقف الحرب على غزة والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة لتحقيق السلام الدائم طبقا لقرارات الأمم المتحدة، والسعى نحو تحقيق حل الدولتين الذى أجمعت عليه كل دول العالم، وتسعى كل من مصر والسعودية لدعم وتعزيز الأمن والاستقرار فى المنطقة والعالم، فى ضوء ما تحظيان به من مكانة عالمية على جميع الأصعدة والمحافل الدولية.
أمن البحر الأحمر
ويحظى أمن البحر الأحمر بأهمية بالغة لكل من مصر والسعودية فللبلدين مصالح استراتيجية مشتركة فى هذا الممر المائى المهم يفرض عليهما تضافر الجهود للخروج بحلول قوية وناجزة لهذه الأزمة المتشابكة المؤثرة على اقتصاديات العالم بسبب التهديد المستمر للملاحة العالمية، والذى تضاعف بعد الحرب الإسرائيلية على غزة وتحكم الحوثيون فى مضيق باب المندب، وكذلك الحرب الدائرة فى السودان التى تمثل تحديا استراتيجيا أمام البلدين يلزمهما إعادة الاستقرار وضبط مسار العملية السياسية بين أطرافه المتصارعة منذ عام 2019، فالسودان له ساحل طويل ممتد على البحر الأحمر.
العلاقات الاقتصادية البينية
وتطورت العلاقات الاقتصادية والتجارة البينية بين الدولتين الشقيقتين فى السنوات القليلة الماضية بشكل كبير ومتنام ومتسارع، وتمثل مصر أحد أهم الشركاء الاقتصاديين للمملكة العربية السعودية، وتأتى فى المرتبة السابعة، حيث بلغ حجم التبادل التجارى أكثر من 12.9 مليار دولار، وبلغت الصادرات المصرية الى السعودية نحو 5.4 مليار دولار، فيما بلغت الواردات المصرية من السعودية نحو 7.5 مليار دولار، وتشمل الصادرات المصرية إلى المملكة العربية السعودية المنتجات المعدنية والفواكه، إلى جانب المنتجات النباتية والمعادن العادية ومصنوعاتها، فضلاً عن المواد الغذائية المصنعة، فيما تستورد مصر من السعودية المنتجات المعدنية واللدائن ومصنوعاتها والمنتجات الكيميائية العضوية، بالإضافة إلى الألمنيوم ومصنوعاته.
واكتسبت العلاقات الاقتصادية بين مصر والمملكة العربية السعودية زخما كبيرا، وأظهرت بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، تطور قيمة الاستثمارات السعودية فى مصر، والتى حققت قفزة كبيرة فى العام المالى الماضى 2022/2023، قياسا بالفترة المناظرة لها فى العام المالى السابق له 2021/2022، حيث سجل إجمالى الاستثمارات السعودية فى مصر نحو 2.4 مليار دولار فى العام المالى الماضى، ارتفاعا من 491.6 مليون دولار خلال فترة المقارنة، بزيادة بلغت نحو 1.9 مليار دولار، بنسبة زيادة بلغت نحو 474 %، وتشير بيانات جهاز الإحصاء إلى أن ارتفاع قيمة الاستثمارات السعودية فى مصر صاحبه ارتفاع قيمة التبادل التجارى بين البلدين خلال أول 5 أشهر من العام الجارى 2024، لتسجل 3.8 مليار دولار، بينما كانت نحو 2.9 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضى 2023، بزيادة بلغت 900 مليون دولار، وبنسبة زيادة بلغت 29.3 %، حيث ارتفعت صادرات مصر إلى المملكة.
الاستثمار وتبادل الخبرات
وشهدت الأعوام الأخيرة زيادة مطردة فى التعاون الاقتصادى بين البلدين أيضاً استثمارات كبيرة، وتبلغ قيمة الاستثمارات المصرية فى السعودية 5 مليارات دولار من خلال 805 شركات.
و شهدت السعودية فى الآونة الأخيرة تدفقاً للاستثمارات المصرية، خاصة فى القطاع العقارى، حيث جذبت السوق السعودية كبرى الشركات المصرية، مثل مجموعة طلعت مصطفى، ومجموعة حسن علام القابضة، وسامكريت، وكونكريت بلس، والشركة الهندسية للإنشاء والتعمير، ومجموعة ماونتن فيو، وسبق للدولتين فى عام 2016 خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين إلى مصر تأسيس صندوق استثمار مشترك بقيمة 60 مليار ريال، كما بلغ حجم الاستثمارات السعودية فى مصر نحو 35 مليار دولار من خلال 6830 شركة، وبلغ حجم استثمار الشركات التابعة للصندوق السيادى السعودى فى مصر نحو 3 مليارات دولار وتحتل العمالة المصرية الموجودة فى السعودية المركز الثانى بين العمالة الأجنبية فى المملكة، كما أنها تتصدر قائمة تحويلات المصريين بقيمة 8.3 مليار دولار، مستحوذة على أكثر من 58 % من إجمالى تحويلات المصريين العاملين فى جميع الدول العربية خلال العام المالى 2022/2023.
وكشفت بيانات وزارة الاستثمار السعودية أن 30 % من تصاريح الاستثمار فى المملكة الصادرة خلال الربع الأول من العام الحالى حصلت عليها شركات مصرية، ولدى السعودية ودائع بقيمة 10.3 مليار دولار فى البنك المركزى المصرى، وفق آخر أرقام معلنة، وتتراوح الودائع بين 5 مليارات دولار ودائع قصيرة الأجل تجدد كل عام، و5.3 مليار دولار ودائع متوسطة الأجل، يحين سداد أجلها فى أكتوبر 2026.
مشروع الربط الكهربائى
ومن المشاريع الكبرى المشتركة بين البلدين مشروع الربط الكهربائى، البالغة قدرته 3000 ميغاواط، ومن المقرر أن يبدأ تشغيل مرحلته الأولى قبل منتصف 2025،ويتكون المشروع من 3 محطات محولات ضخمة ذات جهد عالٍ، المحطة الأولى تقع فى شرق المدينة المنورة، والثانية فى تبوك، والثالثة فى مدينة بدر شرق القاهرة. وتربط بينها خطوط هوائية يصل طولها لنحو 1350 كيلومتراً وكابلات أخرى بحرية ويعود مشروع الربط الكهربائى بين مصر والسعودية إلى عدة سنوات، وتوج باتفاق فى أكتوبر 2021 مع الشركات الفائزة بمناقصات، طرحتها الجهات المسئولة عن الكهرباء فى البلدين.