الإثنين 7 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

قصف المتاحف والمساجد القديمة وكل المعالم الأثرية استراتيجية محو الذاكرة وطمس الهويــة الفلسطينية

يمر عام كامل من العدوان الغاشم، اتبع فيه الاحتلال الإسرائيلى سياسة تدمير كل ما تطاله يداه، لم يترك الأخضر أو اليابس، ضاربًا بكل القوانين الدولية عرض الحائط.. وفى ظل تواصل الغارات العشوائية، لم تكن الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطينى، وتدمير جميع سبل الحياة أمامه هى الهدف الوحيد للاحتلال، بل حاول المحتل طوال عام كامل طمس الهوية الفلسطينية بشتى الطرق.



إحدى صور التدمير الممنهج، قصف العشرات من المعالم الأثرية التاريخية والتراثية داخل قطاع غزة، مثل المتاحف التاريخية، وأقدم المساجد والكنائس بالعالم، فضلًا عن تضرر 146 بيتًا قديمًا، وعشرات المكتبات، والمراكز الثقافية.

 تدمير ممنهج

المكتبة الوطنية الفلسطينية أعلنت أن سلطات الاحتلال الإسرائيلى ارتكبت جرائم حرب وإبادة ثقافية فى قطاع غزة طيلة العام الماضى، تتجاوز تداعياتها مجرد تدمير الممتلكات والآثار، لتطال الهوية، والانتماء، والذاكرة الجماعية للأفراد، مضيفة أن جميع الأرقام والإحصائيات المتوفرة، حول ما حل بالقطاع الثقافى يمثل الحد الأدنى للدمار، إذ لم تضع حرب الإبادة الجماعية أوزارها بعد، خاصة فى ظل استمرار ما تتعرض له البنية التحتية، والمعالم الثقافية من تدمير شامل مُتعمد.

وأوضحت المكتبة الفلسطينية أن الاحتلال يعمل على محو ممنهج للذاكرة الفلسطينية التاريخية عن طريق تدمير المواقع الأثرية، والمعرفية، والممتلكات الثقافية، والتراث المادى، وغير المادى، واستهداف الآثار الملموسة، والوثائق، والمخطوطات، والكتب، وجميع أشكال الإنتاج الثقافى، إلى جانب قتل الكفاءات الأكاديمية، والعلمية، والفنية، وذوى الخبرات الثقافية.

كما أضافت: إن الاحتلال استهدف البنية التحتية الثقافية فى القطاع المكلوم من مراكز ثقافية، ومتاحف، ومسارح، ومعارض، ومعالم تاريخية، وأثرية، ومكتبات عامة وخاصة، وغيرها، مثلما طال ثروة من الكتب النادرة، والمخطوطات، والوثائق التاريخية، والأرشيفات، والمواد السمعية والبصرية، إلى جانب وسائل الحفظ اليدوى، والإلكترونى، والقطع الأثرية التاريخية، وغيرها الكثير.

ومن ثم، طالبت المكتبة الوطنية الفلسطينية، المجتمع الدولى بضرورة توفير الحماية لما تبقى من تراث ثقافى فلسطينى فى قطاع «غزة»، انطلاقًا من مبدأ ملكية الممتلكات الثقافية؛ داعية إلى الالتزام باتفاقية «لاهاى» لعام 1954، التى تمنع تدمير وإلحاق الضرر بالتراث الثقافى فى النزاعات المسلحة.

كما طالبت بتشكيل لجنة دولية من الأمم المتحدة، وخاصة (اليونسكو)، من أجل تقييم الأضرار الثقافية، والعمل على إعادة ترميمها، وبتشكيل لجنة لتوثيق الأضرار من المؤسسات الفلسطينية، من أجل رفع ملف (الإبادة الثقافية) فى «غزة» إلى المحكمة الجنائية الدولية، من أجل ملاحقة مجرمى الحرب، والمطالبة بتعويضات.

الاستهداف الثقافى والتراثى

وذكر تقرير المكتبة الوطنية الفلسطينية -بمناسبة مرور عام على العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة- أن استهداف سلطات الاحتلال للمراكز الثقافية، والفنية، والتعليمية، والمعالم الأثرية، والدينية فى «غزة»، يحقق أهدافًا سياسية واضحة، حيث لا تمثل هذه المراكز أماكن للإبداع والفكر فحسب، بل هى أيضًا أدوات فعالة للتعبير عن الذاكرة الجماعية، والصمود أمام محاولات الاحتلال لإعادة رسم الهوية؛ مؤكدًا أن محو الاحتلال لتلك المراكز يعطل من قدرة المجتمع على الحفاظ على هويته الثقافية، ونقلها للأجيال القادمة، ويسمح للمعتدى بفرض الهيمنة والسيطرة على الشعب من خلال محو تراثه وتفريغه من معانيه الوطنية. وبشكل عام، استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية جميع المتاحف فى قطاع «غزة»، ومن أبرزها «المتحف الوطنى» فى «قصر الباشا»، وهو أثر مملوكى، تم تحويله إلى متحف فى عام 2010، كان يضم عشرات آلاف القطع الأثرية؛ وذلك إلى جانب متحف «دير البلح» التابع لبلدية المدينة، ومتحف «رفح» الفلسطينية، بالإضافة إلى متحف «القرارة»، ومتحف «الفندق»، وغيرها من المتاحف التى دُمرت مقتنياتها، أو سرقها جنود الاحتلال، وقاموا بتصويرها عقب نقلها إلى متاحف الاحتلال الإسرائيلى.

ودُمرت ـ أيضًا ـ  وحُرقت مئات المكتبات الخاصة والعامة؛ كمكتبة بلدية «خان يونس»، التى تعرضت لقصف طائرات الاحتلال الحربية، والتى كانت تحتوى على آلاف الكتب، والخرائط، والوثائق، التى توثق تاريخ المدينة؛ بالإضافة إلى مكتبة جامعة «غزة»، ومكتبة «ديانا تمارى صباغ»، ومكتبة «جامعة الإسراء» وغيرها.

كما طال الدمار الأرشيف المركزى فى «غزة»، الذى يحتوى على مبانٍ ووثائق تاريخية قديمة عمرها أكثر من 150 عامًا، إضافة إلى الأرشيف المركزى للمدينة، وخرائط ودراسات هندسية، ودوائر التحكم والمراقبة لآبار المياه، وشبكات الصرف الصحى.

وذلك إلى جانب سيطرة قوات الاحتلال على مخزن آثار «غزة»، ونشر -حينها- مدير هيئة الآثار التابع لحكومة الاحتلال الإسرائيلى لصور له ولفريقه من المخزن، والذى يحتوى على آلاف القطع الأثرية، التى تعود إلى حقبات زمنية تتراوح ما قبل 3 آلاف سنة قبل الميلاد، إلى القرنين السابع والثامن الميلادى، وحتى بداية العهد الإسلامى المبكر.

 المبانى التاريخية والثقافية

امتد الدمار إلى مئات المبانى التاريخية، فقد تم تدمير «بيت السقا» التاريخى الذى يعتبر من أقدم بيوت المنطقة فى حى «الشجاعية»، شرق مدينة غزة، ويعود تاريخ بنائه لما يزيد على 400 عام خلال الفترة العثمانية، و«بيت سباط العلمى»، الذى يعود إلى القرن السابع عشر الميلادى، و«حمام السمرة» الذى كان آخر الحمامات العثمانية فى «غزة». 

هذا بالإضافة إلى تدمير ميناء «البلاخية» المعروف -أيضًا- باسم ميناء (أنثيدون) الأثرى بشمال غربى مدينة «غزة» والذى وصفته منظمة (اليونسكو) -سابقًا- ضمن المواقع الأثرية المهمة، حيث يعود بناء موقع «البلاخية» إلى 800 عام قبل الميلاد على يد الكنعانيين أول سكان فلسطين، ويعد من أهم المعالم الأثرية فى «غزة»، وضمن أهمها فى منطقة «الشرق الأوسط».

وتعرضت قلعة برقوق الأثرية التى تقع فى مدينة خان يونس فى قطاع غزة لدمار كبير، ولقد شيدت بالقرن الرابع عشر فى عهد السلطان المملوكى برقوق مؤسس دولة المماليك.

علاوة على ذلك، استهدف الاحتلال موقع «تل العجول»، الذى يمثل تاريخ «غزة» فى العصرين البرونزى الوسيط والمتأخر.

كما دمر الاحتلال عشرات المراكز الثقافية والمسارح، منها: مركز «رشاد الشوا» الثقافى، وهو أكبر مركز ثقافى فى قطاع «غزة»، ويحتوى على وثائق وكتب ومخططات تاريخية، و«المركز الثقافى الأرثوذوكسى»، وجمعية «حكاوى للمسرح»، وجمعية «مسرح الوداد» وغيرها.

 بيوت العبادة فى مرمى النيران

مثلما لم تفرق غارات الاحتلال بين كبير وصغير، لم تفرق –أيضًا- بين المنازل، والمستشفيات، ودور العبادة، حيث قُصفت بالقذائف الموجهة أربع كنائس قديمة تُعتبر رموزًا حضارية مهمة فى فلسطين، من بينها كنيسة «القديس برفيريوس» ثالث أقدم كنيسة فى العالم فى حى «الزيتون» شرقى مدينة «غزة» اتخذ منها سكان القطاع ملجأ لهم من ويلات العدوان وقصفهم مباشرة؛ وأيضًا كنيسة «المعمدانى» ومشفاها فى جريمة غير مسبوقة انُتهكت فيها القوانين الدولية والإنسانية، والتى خلفت وراءها مئات الشهداء والمصابين فى أكتوبر 2023، وهو بناء تاريخى شيد فى عام 1882.

هذا بالإضافة إلى استهداف دير «القديس هيلاريون»، الذى تعرض لغارة جوية إسرائيلية أدت إلى تدمير جزء منه، وهو من أقدم أديرة منطقة «الشرق الأوسط»، وكان قد أدرج على قائمة (اليونسكو) للتراث العالمى المعرض للخطر خلال يوليو الماضى.

كما قصف الاحتلال ودمر 611 مسجدًا تدميرًا كليًا؛ فيما دمر جزئيًا 214 مسجدًا، من بينها: «المسجد العمرى» فى «غزة»، وهو أحد أهم وأقدم المساجد فى «فلسطين» التاريخية، ويكتنز بداخله مكتبة تحتوى على العديد من الكتب، والمخطوطات التاريخية، بعد أن تعرض لقصف طائرات الاحتلال الإسرائيلى فى ديسمبر الماضى، ما أدى إلى تدميره بشكل شبه كلى، هو ومكتبته «الظاهر بيبرس» التى تحتوى على جزء من الأرشيف الفلسطينى ومجموعة من الكتب النادرة.

وذلك إلى جانب مسجد عثمان قشقار الأثرى فى البلدة القديمة بمدينة «غزة»، الذى تأسس عام 620 للهجرة، وهو من أقدم المساجد والأعيان الأثرية فى القطاع.

كما دمر الاحتلال 8 مقابر بشكل كامل، من بينها: تجريف مقبرة «بيت حانون» ونبش 600 قبر فيها، إلى جانب «المقبرة الرومانية»، التى تعود إلى نحو 2000 عام، وكانت تضم مجموعة توابيت مصنوعة من الرصاص، ومقبرة «دير البلح» التى يعود تاريخها إلى العصر البرونزى المتأخر.

 تدمير الحرف اليدوية والأعمال الفنية

إلى جانب فقدان الأعمال الفنية، التى كان يحتفظ بها أصحابها فى منازلهم التى دمرت، فقد تضررت العديد من ورش ومتاجر الحرف اليدوية والشعبية التى تشتهر بها «غزة»، مثل: التطريز، وصناعة الخزف، وصناعة الفخار والخيزران، إذ تعد هذه الحرف جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافى، والهوية الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى كونها مصدرًا أساسيًا للدخل لكثير من سكان «غزة».

 فنانون ومفكرون بين الاستشهاد والنزوح

لم يتوقف الاحتلال عند محاولات طمس الهوية الفلسطينية وسرقة تاريخه فحسب، بل استهدف أولئك العظماء، الذين يسردون تاريخ الأصالة الطويل، ومن يساعدون على بناء المجتمعات.

فأشار تقرير المكتبة الوطنية الفلسطينية إلى استشهاد أكثر من 130 من العلماء، والأكاديميين، وأساتذة الجامعات، والباحثين، وذلك إلى جانب استشهاد عشرات الكتاب، والشعراء، والفنانين الفلسطينيين.

وبعد عام من العدوان، وفى ظل الحرب المستمرة، لا يجوز الحديث حول تحديات إعادة بناء المشهد الثقافى من جديد فى «غزة»، لصعوبة استرجاع المفقود أو المسروق، وفقدان الكفاءات البشرية التى كانت تشكل العمود الفقرى لهذه المؤسسات، بفعل الاستشهاد، أو النزوح.

فالاحتلال الإسرائيلى انتهز فرصة العدوان منذ السابع من أكتوبر 2023، ليحاول -كعادته- طمس الهوية التاريخية لفلسطين، وليس تزييف التاريخ فحسب.