وسط 3 حروب ضارية وأزمات دولية مشتعلة الأمم المتحدة تتحدث عن السلام والازدهار فى «ميثــــاق المستقبــــل»
آلاء شوقى
فى العاشر من مايو الماضى، لم ينس أحد، إحدى صور الانتهاكات -المعتادة- للاحتلال الإسرائيلى، حينما قام مندوب الاحتلال لدى الأمم المتحدة -فى سابقة من نوعها- بتمزيق صفحات من ميثاق الجمعية العامة للأمم المتحدة، احتجاجًا على التصويت على مشروع قرار يدعو لتوسيع امتيازات فلسطين كـ(دولة مراقب) بأغلبية 143 صوتًا؛ كما استخدم المندوب الإسرائيلى ألفاظًا حادة وإهانات وجهها للمندوبين ممثلى دول العالم فى الجمعية العامة، وتمادى فى انتهاكه لقدسية واحترام المنظمة، حيث وصف هيئة الأمم المتحدة بـ«الوقاحة».
والآن، وبعد مرور أكثر من 4 أشهر على تلك الواقعة، وقرابة عام على العدوان الإسرائيلى على «غزة»، التى انُتهك فيها جميع القوانين الدولية والإنسانية، وأكثر من 76 عامًا على الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، انعقدت أعمال الدورة الـ79 للجمعية العامة فى واحدة من أصعب الأوقات، حيث تشتعل ثلاث حروب حول العالم، إلى جانب العديد من الصراعات والتحديات الدولية التى لا تزال دون حل يذكر.
«ميثاق المستقبل» الغامض
فى افتتاح قمة المستقبل بمقر الأمم المتحدة، اعتمدت الجمعية العامة- بالإجماع ومن دون تصويت- قرارًا يتضمن اتفاقًا رئيسيًا، يُعرف بـ«ميثاق المستقبل»، الذى يوصف بأنه دعوة للعمل والإصلاح، لوضع العالم على مسار أفضل يعود بالخير على الجميع فى كل مكان.
كما وضع القادة، فى الاتفاق، رؤية واضحة لمنظومة دولية قادرة على الوفاء بالوعود تكون أكثر تمثيلًا لعالم اليوم.
يذكر، أن الميثاق هو تعبير عن التزام الدول القوى تجاه الأمم المتحدة، والنظام العالمى، والقانون الدولى. على كل، يركز الميثاق على خمسة مجالات أساسية هي: التنمية المستدامة، السلم والأمن الدوليان، العلوم والتكنولوجيا؛ الشباب والأجيال القادمة، وإحداث تغيير فى الحوكمة العالمية، وهو مجال حيوى فى ظل عدم قدرة المؤسسات متعددة الأطراف على إيجاد حلول لمشاكل القرن الحادى والعشرين.
ومن خلال اعتماد (ميثاق المستقبل)، تعهدت الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة، من بين أمور أخرى، بكل من: تعزيز أهداف التنمية المستدامة واتفاق باريس للمناخ، والتحول بعيدًا عن الوقود الأحفورى فى أنظمة الطاقة، بطريقة عادلة ومنصفة، والاستماع إلى الشباب وإشراكهم فى صنع القرار على المستويين الوطنى والعالمي؛ بناء شراكات أقوى مع المجتمع المدنى والقطاع الخاص والسلطات المحلية والإقليمية وغيرها.
وذلك بالإضافة إلى أهم نقطتين وهما: مضاعفة الجهود لبناء واستدامة مجتمعات سلمية، وشاملة، وعادلة، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراعات؛ فضلًا عن حماية جميع المدنيين فى النزاعات المسلحة؛ وتسريع تنفيذ الالتزامات بشأن المرأة والسلم والأمن.
من جانبه، شدد أمين عام الأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش» على ضرورة أن يضع (ميثاق المستقبل) أساس كل من: الإصلاح لمجلس الأمن الذى وصفه بأنه «عفا عليه الزمن»، ليكون أكثر فعالية وتمثيلًا لعالم اليوم؛ وإصلاح المؤسسات المالية الدولية، لتعزز استخدام الموارد، من أجل التنمية المستدامة والعمل المناخي؛ وإصلاح كيفية الاستجابة للصدمات العالمية، والعمل معًا من أجل السلام والأمن.
كما أكد جوتيريش علىضرورة أن يكون الميثاق الرقمى العالمى خطة لسد الفجوات الرقمية، وأول اتفاق عالمى حول الذكاء الاصطناعى يضع أساس إنشاء منصة دولية يكون مركزها الأمم المتحدة، تجمع كل الأطراف معًا.
بعيدًا عن تلك الآمال العريضة المثالية لعالم أفضل يرغب فى أن يعيش فيه الجميع، إلا أنها أثارت تساؤلات أوسع من تلك الطموحات، ومنها: هل تلتزم الدول والحكومات بهذا الميثاق، الذى يكاد يكون ولد ميتًا، فى ظل انتهاكات القوانين الدولية حول العالم؟، وتحديدًا من قبل الاحتلال الإسرائيلى فى «غزة»، و«الضفة الغربية» المحتلة، وجنوب «لبنان»، بدعم من «الولايات المتحدة» التى هى عضو مجلس الأمن؟!
ويؤدى التساؤل السابق إلى آخر أكثر غموضًا، حول مصداقية الأمم المتحدة نفسها، فى ظل عدم قدرتها على إحلال السلام أو حل الصراعات، لدرجة بدأت فيها دول العالم تشكك بأن التاريخ يعيد نفسه، مثلما حدث لعصبة الأمم، عندما انهارت قبل الحرب العالمية الثانية.
إن هذا التشكيك ظهر -علنًا- خلال الفترات الأخيرة، بل وداخل قاعة انعقاد الجمعية العامة نفسها فى الدورة الـ79؛ فعلى سبيل المثال، قال العاهل الأردنى، الملك «عبدالله الثاني» فى كلمته أمام الجمعية، إن الثقة فى المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة بدأت تتلاشى.
من جانبه، اعتبر الرئيس التركى -فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة- أن نظام الأمم المتحدة يموت فى «غزة».. حيث قال، إن: «ليس الأطفال وحدهم يموتون، إنما نظام الأمم المتحدة -أيضًا فى «غزة»، مؤكدًا أن الأمم المتحدة لم تعد تقوم بما يرجى منها؛ وأن القيم التى يدعى الغرب الدفاع عنها تموت.
والمثير للدهشة أكثر، هو أن الأمين العام للأمم المتحدة أكد -أيضًا- أن النظام العالمى فشل فى إيجاد الحلول لتفشى وانتشار العنف؛ موضحًا أن المدنيين هم من يدفعون ثمن الصراعات والأزمات الدولية.
هل يتجدد مصير عصبة الأمم؟
بكل المقاييس، انحدر العالم إلى الفوضى والاضطرابات بشكل أعمق منذ الاجتماع السنوى فى العام الماضى، عندما ألقت الحرب الروسية - الأوكرانية، التى دخلت عامها الثالث منذ فبراير الماضى، دون حل يلوح فى الأفق لانتهائها، والأزمة فى «السودان» بظلالها على العالم، إلا أنهما لم يكونا -رغم استمرارهما- بقدر الفوضى والاضطرابات التى خلفتها الحرب على «غزة»، وانعكاسها على العالم، فلم تشهد البشرية أبشع من هذه الجرائم الوحشية التى ترتكب فى قطاع «غزة» على وجه التحديد.
فكان العدوان على «غزة، والضفة الغربية»، ومن بعدهما التطورات الأخيرة فى «لبنان»، مرحلة فارقة لم يشهدها التاريخ فى انتهاك المشاعر الإنسانية، قبل القوانين الدولية بصورة صارخة، ناهيك عن عدم احترام جميع المؤسسات الدولية، وفى مقدمتها الأمم المتحدة؛ ومن بين أبرز الدلائل هى مجازر الاحتلال اليومية بحق شعب أعزل داخل «غزة» يعانى من العدوان والحصار، راح ضحيته أكثر من 41 ألف شهيد، إلى جانب أكثر من 96 ألف مصاب أغلبهم من النساء والأطفال، وسط صمت دولى غير مبرر.
وكان من أبرز المجازر التى انتهكت كافة القوانين الدولية والإنسانية -على مدار قرابة عام- فى قطاع «غزة»: مجزرة مستشفى المعمدانى فى 17 أكتوبر 2023، حينما قصفت طائرات الاحتلال ساحة المستشفى الأهلى العربى «المعمداني» التى تؤوى مئات النازحين، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 500 شهيد، أغلبهم نساء وأطفال.
ولم ينس أحد مجزرة مدرسة الفاخورة التى حدثت فى 18 نوفمبر 2023، حينما استهدف طيران الاحتلال المدرسة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والتى تؤوى آلاف النازحين فى شمال قطاع غزة، وراح ضحيتها أكثر من 200 بين شهيد وجريح.
هذا بالإضافة إلى مجزرة دوار النابلسى، التى عرفت -أيضًا- باسم «مجزرة الطحين» فى 29 فبراير الماضى، حينما أطلقت قوات الاحتلال النار تجاه تجمع لفلسطينيين كانوا ينتظرون وصول شاحنات تحمل مساعدات فى شارع الرشيد، عند دوار النابلسى جنوب غرب مدينة «غزة»، ما أدى لاستشهاد 118 فلسطينيا وإصابة 760 آخرين.
وذلك إلى جانب، مجزرة مستشفى الشفاء منذ 18 مارس حتى الأول من أبريل الماضيين، حينما حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلى مجمع الشفاء الطبى، لمدة أسبوعين وما إن انسحبت من المجمع الطبى الأكبر فى القطاع حتى تكشف حجم المجزرة التى قامت بها قوات الاحتلال وذلك بقتل 400 فلسطيني فى المجمع ومحيطه، واكتشفت العديد من المقابر الجماعية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فكانت مجزرة رفح الفلسطينية التى عرفت باسم «محرقة الخيام» فى 26 مايو الماضى جريمة بشعة أخرى، حينما شنت طائرات الاحتلال عدة غارات على مخيم للنازحين فى منطقة تل السلطان، شمال غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والتى قال الاحتلال إنها مناطق آمنة لنزوح المدنيين، وذهب ضحية تلك المجزرة 45 شهيدًا و249 مصابًا معظمهم من النساء والأطفال.
وذلك إلى جانب، مجزرة مدرسة التابعين التى عرفت بـ«مجزرة الفجر» فى العاشر من أغسطس الماضى، التى ارتكبها الاحتلال بدم بارد حينما استهدف المدرسة بثلاثة صواريخ بحق نازحين كانوا يؤدون صلاة الفجر فى المدرسة الواقعة بمنطقة حى الدرج وسط مدينة غزة، مما أسفر عن استشهاد أكثر من 100 فلسطينى وعشرات الإصابات معظمهم من النساء والأطفال.
انتهاكات الاحتلال للقوانين الدولية والإنسانية لم تتوقف عند هذا الحد، بل وصل الأمر لأن تشهد الأمم المتحدة نفسها عامًا مضطربًا، بعد مقتل عدد قياسى من موظفيها، بلغ 220 شخصًا، فى حرب «غزة» وحدها، بعد أن استهدفهم جيش الاحتلال عدة مرات متعمدًا، من أجل عرقلة وصول الجهود الإغاثية والمساعدات الإنسانية للمدنيين العزل.
ورغم قبول تلك الانتهاكات بتقاعس غربى واضح، وعجز مجلس الأمن عن وقفها، نتيجة الدفاع الأمريكى عن الاحتلال، لم يتوقف الاحتلال الإسرائيلى عند هذا الحد، فالقضايا التى رفعت ضد إسرائيل والمسئولين الإسرائيليين عبر محكمة العدل الدولية -وهى أعلى محكمة فى الأمم المتحدة-، إلى جانب المحكمة الجنائية الدولية التى تدعمها الأمم المتحدة، لم ينفذ منها قرار واحد؛ والأمر نفسه لقرارات الأمم المتحدة نفسها، ودعواتها، ومناشداتها الطويلة.
جدير بالذكر، أن تجاوز الاحتلال الإسرائيلى للقوانين الدولية والإنسانية، وعدم احترامه للأمم المتحدة، لم ينبع من فراغ، فبينما كان العالم ينتظر صدور قرار مجلس الأمن الدولى بشأن وقف إطلاق نار إنسانى، بعد مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة بذلك، مستندًا إلى (المادة 99) من ميثاق الأمم المتحدة، فوجئ الجميع باستخدام «الولايات المتحدة» لحق النقض «فيتو» ضد مشروع القرار؛ مما أدى لفشل المجلس فى اتخاذ أى إجراء لوقف المذبحة الإسرائيلية المتواصلة على قطاع «غزة».
وهنا بات التساؤل.. عن أى (ميثاق المستقبل) تتحدث الأمم المتحدة، فى ظل عدم قدرتها على احتواء الأزمات، وإنهاء الصراعات، جراء عدم احترام قوانينها من قبل الاحتلال الإسرائيلى وغيره، انطلاقًا من مبدأ (من أمن العقاب....).