اختيار الموقع يعكس توجهات طهران ومحاولات فرض هيمنتها نقل العاصمة الإيرانية إلى مدينة مطلة على الخليج العربى يفاقم أزمات المنطقة
آلاء البدرى
توجه إيران لنقل عاصمتها من طهران إلى إحدى مدنها المطلة على الخليج العربى يخلق العديد من التحديات ويعيد ملف الأزمات الإيرانية الخليجية بقوة إلى طاولة النقاش لعل أبسطها إصرار إيران على تسمية الخليج العربى بالخليج الفارسى، ناهينا عن هذا التوجه وإن كان يرجع لأسباب داخلية نتيجة اكتظاظ طهران بالسكان وما تعانيه من ضغوط شديدة على البنية التحتية والتلوث، إلا أن عملية النقل إلى شاطئ الخليج العربى يعكس نوايا ومخططات إيرانية تهدف إلى بسط نفوذها على الخليج العربى وتعميق تداعيات أى مواجهة بين طهران من جانب والولايات المتحدة والدول الغربية من جانب آخر، لذلك لا يمكن النظر لنقل العاصمة الإيرانية على أنه مشروع عادى كما حدث فى دول أخرى، لكن تحديد موقع العاصمة الجديدة على الخليج العربى يعنى أن الأمر يتعدى بكثير ما تعلنه طهران فى هذا الشأن.
وتشكل إيران اليوم أخطر التحديات الأمنية وأكثرها إلحاحًا بالنسبة لكل دول منطقة الشرق الأوسط، فمنذ ثورات الربيع العربى سعت إيران إلى تصدير أيديولوجيتها المتطرفة من خلال استخدام الإرهاب والتخريب ودعم رفاقها الأيديولوجيين فى مختلف أنحاء العالم العربى والإسلامى.
وعلى الرغم من أن المشهد السياسى الإيرانى معقد ويصعب فهمه فى الوقت الحالى، خاصة فى ظل المعارك الداخلية المتشابكة، لكن المؤشرات واضحة على أن معظم الإيرانيين يريدون مجتمعًا أكثر ديمقراطية وانفتاحًا إلا أنه لا يمنع تزايد خطورة السلوك الإيرانى وامتداد سياساتها التوسعية على جبهات عديدة، فضلًا عن تقاطع المصالح على الساحة العالمية، الأمر الذى يخلق نوعًا من عدم التوازن فى المنطقة.
عرض الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان مؤخرًا خططًا لنقل العاصمة الإيرانية من طهران إلى الجزء الجنوبى من البلاد بالقرب من الخليج العربى وناقش هذه الخطط بشكل تفصيلى باعتبار أن هذا التحول ضرورى لأن الوضع الحالى يعيق تنمية البلاد دون التطرق إلى المدن المرشح نقل العاصمة إليها مما خلق نوعًا من الغموض على مستقبل منطقة الخليج العربى.
من الواضح حتى الآن أن استراتيجية الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان المعلنة تعتمد على سياسة اغتنام الفرص من خلال خلق التوازن فى العلاقات مع جميع الدول بما يتفق مع مصالح إيران الوطنية ومصالحها الاقتصادية ومتطلبات السلام والأمن الإقليمى والعالمى وتخفيف التوترات فى المنطقة ولم تلمح خططه أبدا إلى ملفات العلاقات الإيرانية الخليجية غير المحسومة بل كانت كل الخطط تركز على الداخل الإيرانى فيرى الرئيس أن طهران تواجه مشاكل لا حل لها إلا بنقل العاصمة، حيث تعانى من نقص المياه وهبوط التربة وتلوث الهواء إلى جانب مخاطر الانفجار السكانى، ونشر مركز التقدم والتنمية فى إيران التابع لمكتب الرئيس تقريرا يحذر من أن عدد سكان طهران سيزداد بنحو 20 مليون شخص على مدى السنوات الثلاثين المقبلة مما يجعل إدارة المدينة مستحيلة تقريبا وأن عدد سكان المدينة يتجاوز قدرة البنية التحتية بأكثر من 70% وهذا يعنى أنه من بين 9 ملايين شخص يعيشون مباشرة فى العاصمة لا يستطيع سوى 2.7 مليون شخص التمتع بظروف معيشية لائقة.
وتضاعف سكان طهران ثلاث مرات خلال السنوات العشر الماضية بسبب تدفق المواطنين من المحافظات بحثًا عن العمل وحياة أفضل حتى أن مهرداد لاهوتى عضو اللجنة البيئية فى البرلمان الإيرانى صرح بأن أكثر من 4000 شخص يموتون سنويًا فى طهران بسبب الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء.
وأكدت خطط نقل العاصمة أنه على الصعيد الاقتصادى أن تنمية وتطوير البلاد مستحيلة فى طهران إذ يتم تنظيم الخدمات اللوجستية ومعالجة المنتجات بطريقة غير منطقية، حيث يتم جلب الموارد من الجنوب والبحر إلى طهران وتحويلها إلى منتجات ثم إرسالها إلى الجنوب للتصدير هذا الوضع يقلل بشكل خطير من قدرات إيران بالإضافة إلى أن طهران العاصمة الحالية تقع على خط صدع زلزالى كبير يمتد على طول قاعدة جبال البرز فى الجزء الشمالى من العاصمة وتهز المدينة هزات أرضية صغيرة عديدة كل عام ويحذر علماء الزلازل من أن وقوع زلزال قوى فى طهران قد يؤدى إلى عواقب كارثية وقد أصدروا تحذيراتهم حتى قبل وقوع الزلزال الذى بلغت قوته 6.8 درجة فى مدينة بام فى ديسمبر 2003 والذى أودى بحياة أكثر من 30 ألف شخص وبحسب التقديرات فإن زلزالًا بنفس قوة زلزال بام قد يؤدى إلى مقتل أكثر من 700 ألف شخص فى طهران.
العلاقات الخليجية الإيرانية إلى أين؟
رغم تصرفات إيران فى منطقة الخليج التى تفضح نهجها الأمنى وسلوكها العدائى والهجومى الذى يجعلها تشكل تهديدًا ليس فقط لمنظومة الأمن الخليجية بل لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها إلا أن الرؤية المستقبلية الواقعية للجيوسياسية الإقليمية متضاربة إذا اخذنا فى الاعتبار المواقف المختلفة والمتباينة التى تتخذها دول الخليج من إيران.
وقال الدكتور أحمد النادى أستاذ الدراسات الإيرانية بجامعة الزقازيق: إن اقتراح نقل العاصمة ليس بجديد فقد نوقشت هذه الفكرة حتى قبل الثورة الإسلامية ولكنها اكتسبت زخمًا بحلول عام 1989 بسبب تفاقم الأزمات المختلفة داخل العاصمة الحالية طهران من الاكتظاظ السكانى والتلوث البيئى المزمن ومخاطر الزلازل المحتملة وضعف البنية التحتية الأساسية وغيرها من المشاكل التى لا تزال قائمة حتى وقتنا هذا وأيضا فى عام 1991 اقترح المجلس الأعلى للأمن القومى فى إيران خطة لنقل العاصمة لكنها باءت بالفشل بسبب معارضة بعض الفصائل داخل الدولة وأعيدت الفكرة مرة أخرى، حيث تم تقديم مقترحات مماثلة بين عامى 2005 و2013 أثناء رئاسة محمود أحمدى نجاد حيث استلهمت المقترحات الفكرة وبلورتها من عمليات نقل العواصم الناجحة مثل إسطنبول..أنقرة وكراتشى.. إسلام أباد فى تركيا وباكستان المجاورتين وتم رفض المقترحات وصرح رئيس المجلس محسن هاشمى رفسنجانى وقتها أن الحكومة يجب أن تستثمر فى تحسين وتطوير طهران بدلًا من فكرة نقل العاصمة، وكانت كل الاقتراحات السابقة مدنًا بعيدة عن منطقة الخليج مثل أصفهان وشيراز ومشهد وقم وتبريز ويزد وأيضا كانت هناك مقترحات لإقامة مدينة مخصصة لهذا الغرض لكن مخطط الرئيس الإيرانى بزشكيان بنقل العاصمة إلى إحدى مدن إيران المطلة على الخليج هو توجه جديد يخلق العديد من التحديات ويعيد ملف الأزمات الإيرانية الخليجية بقوة إلى طاولة النقاش وأول الأزمات وأبسطها أزمة تسمية الخليج فسيعزز نقل العاصمة عودة تداول اسم الخليج الفارسى بدلا من الخليج العربى باعتبار أن الشط الشرقى للخليج بأكمله تابعا لإيران والضفة الأخرى دول عربية مستقلة ورغم أن التسمية لا تعنى التبعية أو الامتلاك إلا أن هذه التسمية توجه فارسى تاريخى وقديم بالنسبة لإيران.
وأضاف أن الأهم هو أزمة تقارب إيران من أذرعها العسكرية الخارجية فهى الداعم الرئيسى لجهات فاعلة غير حكومية مثل حزب الله فى لبنان وحماس فى غزة والفصائل والميليشيات الشيعية وبعض العناصر الكردية فى العراق والحوثيين فى اليمن وحتى الجماعات السنية المتطرفة مثل عناصر تنظيم القاعدة فى بعض مناطق آسيا وحتى إفريقيا وكانت جهودها السابقة متسقة وموجهة بشكل عام جيدا جدا وهو ما يشكل خطرًا على دول الخليج وشمال إفريقيا فإيران تسعى إلى عودة توجهها كشرطى للخليج مما يخلقة مخاوف من عودة صدامات إيران فى الخليج والصراعات على النفوذ فى العراق وسوريا والحرب فى اليمن واحتمال اندلاع جولات جديدة من الصراع والتوترات المتزايدة بينها ودول الخليج العربية بعد أن أغلقت تقريبا معظم الصراعات، فمثلا الصراع الإيرانى السعودى دخل مرحلة جديدة بعد عقد اتفاقية بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وتطوير العلاقات والمصالح المشتركة بينما لم يحل حتى الآن النزاع بين الإمارات العربية المتحدة وإيران فيما يخص السيادة على جزر الخليج، أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى، التى سيطرت عليها إيران بالكامل ورغم ذلك لم تتقدم الإمارات برفع أى منازعة دولية على الجزر الثلاث لكن استمرار هذه السيادة تنم عن طموحات توسعية واضحة فى المنطقة العربية أما الملف الإيرانى البحرينى الذى يتلخص فى ادعاء إيران أن البحرين جزء من الجمهورية الإيرانية وأنها كانت حتى نهاية عام 1970 المحافظة الرابعة عشرة للبلاد هو ملف مؤجل بالنسبة لإيران لأنها تعمل بجهود حثيثة فى الداخل البحرينى لتغيير الديموغرافية السكانية من العرق العربى إلى العرق الفارسى إلى جانب تغير الناحية الأيديولوجية بفرض المذهب الشيعى على غرار ما تم فى لبنان والعراق والذى تحاول تطبيقة فى سوريا أيضا وفيما يخص قطر فالعلاقات القطرية الإيرانية علاقات إيجابية إلى حد كبير لا يوجد فيه أى شبهة توتر فالعلاقات بينهم متميزة من الناحية الاقتصادية والسياسية والتجارية والأيام المقبلة ستشد تقدم كبير فى العلاقات المصرية الإيرانية رغم أن مصر بعيدة عن منطقة الخليج وعن صداقات المنطقة وأزماتها مع إيران إلا أن ملف التقارب بين مصر وإيران مطروح وبقوة فى الداخل الإيرانى وأعتقد أن هذا التقارب سيحدث نقلة نوعية إيجابية كبيرة فى منطقة الشرق الأوسط.
مخططات خبيثة
يؤكد التوجه الأمنى الإيرانى أن إيران تسعى إلى إقامة المرحلة الأولى من الدولة الإسلامية الدولية وأن التوجه الأمنى لديها يشكل تهديدًا وليس محاولة لإرساء الأمن والتنمية فى المنطقة كما تدعى لأنه يهدف فى المقام الأول إلى تحقيق مخططاتها بعدة طرق منها تكثف جهودها لإنشاء شبكات التجسس والسعى إلى الحصول على معلومات عسكرية واقتصادية، بالإضافة إلى بيانات وملفات مفصلة ودقيقة عن القدرات العسكرية لدول منطقة الشرق الأوسط واتفاقياتها السرية والمنشآت العسكرية فى المنطقة ومن عجيب المفارقات أن إيران تشرف بشكل صريح ورسمى على شبكات التجسس فى دول الخليج وعدد من الدول العربية لتؤكد أنها مطلعة على الخطط والبرامج العسكرية والاقتصادية والسياسية فى المنطقة وهذا انتهاك صارخ لسيادة الدولة وأمنها المعلوماتى وتتصدر الكويت قائمة الدول التى شهدت أكبر عدد من التوغلات الاستخباراتية الإيرانية ففى 2012 ألقت السلطات الكويتية القبض على أكبر خلية تجسس موجودة فى الكويت والتى تتكون من 39 ضابطًا من الحرس الثورى الإيرانى و58 عضوًا من رتب مختلفة وضبطت السلطات الكويتية أجهزة تجسس متطورة وأسلحة وقنابل إيرانية الصنع وفى عام 2015 تم القبض على خلية تجسس إيرانية تعرف باسم «خلية العبدلى» مجهزة بأحدث تقنيات التجسس للبقاء على اتصال مع المخابرات الإيرانية ومسلحة بأسلحة خفيفة وذخيرة فى الكويت وأيضا إثارة الفتنة الطائفية وتهديد أمن الدول المجاورة من خلال تعريض الأمن الاجتماعى للدولة للخطر وهو تهديد لا يقل خطورة عن تقويض الأمن العسكرى لأنه يؤثر بشكل مباشر على الدولة والشعب ويشكل خطرًا على التماسك الاجتماعى للدولة وعلى قيم وأفكار الشعب ولا يمكن مواجهته بسهولة إذا كان يخترق البنية الاجتماعية للدولة وقيمها ومؤسساتها وتراهن إيران على هذا الجانب فقد استغلت استخدام القوة الناعمة عبر وسائل الإعلام ورفعت شعارات طائفية كان لها تأثير نفسى كبير على بعض العرب إلى جانب تهديد الملاحة البحرية الدولية واستهداف التجارة العالمية فترى ايران إن البعد الجيوستراتيجى للمنطقة بما فى ذلك ممراتها المائية يشكل ورقة مساومة بالغة الأهمية فكلما واجهت إيران ضغوطًا سياسية أو عقوبات اقتصادية فإنها تعيق الملاحة البحرية فى ممرات الخليج بشكل مباشر وواضح وهذا يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولى وخاصة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 فإيران تدرك جيدا تداعيات استهداف السفن التجارية والعسكرية وكذلك الرد الدولى على هذه الانتهاكات المتعمدة لحرية الملاحة ونتيجة لذلك لجأت إلى دعم الميليشيات المسلحة وتوجيهها لمهاجمة السفن وناقلات النفط فى البحر الأحمر والخليج العربى مما يشكل خطرا جسيما على الملاحة البحرية فى المنطقة إن استخدام الميليشيات بالوكالة هو أفضل استراتيجية لإيران للضغط على دول المنطقة مع التهرب من العقوبات وقد أثبتت الهجمات التى نفذت فى الماضى أنه ليس من السهل محاسبة إيران على هذه الأعمال الإرهابية والعدائية بسبب الحركة النشطة للجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة، ولا شك أن خطر إيران يفرض تكاليف وخسائر وأعباء اقتصادية كبيرة فى ظل سباق التسلح فى منطقة الشرق الاوسط.