السبت 5 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الصحـافة والثـورة ذكريات ومذكرات - 3

أحمد حمروش «بداية المشوار الصحفى بعد ثورة يوليو»

كانت العلاقة بين ثورة 23 يوليو 1952 وبين نجوم الكتابة الصحفية والأدبية، علاقة وثيقة منذ اللحظات الأولى للثورة. اندفع أصحاب القلم لدعم الثورة التى نادوا بها وبشروا بها لإنقاذ البلاد، وتمازج قادة الثورة معهم وأمدوهم بالأخبار والرؤى والانفرادات التى سعوا أن تصل للجماهير، ولكن سرعان ما اختلفت المسارات بين فكر الثورة وأقلام صحافتها.. ولكل منهم وجهة نظره. من هنا تأتى أهمية هذه الشهادات التى دونها الأستاذ «رشاد كامل» مع رموز القلم الصحفى فى حقبتى الخمسينيات والستينيات، فى محاولة لفهم العلاقة بين السياسة والصحافة.



هذه الحوارات هى حصيلة هذا الكتاب الذى يشرح سر العلاقة الغاضبة بين الصحافة والثورة.

«أحمد حمروش» واحد من ثوار يوليو 1952.. حيث كان مسئولاً عن الحركة فى مدينة الإسكندرية. عقب نجاح الثورة عرض على جمال عبدالناصر إصدار مجلة أو صحيفة تعبر عن الجيش، ووافق عبدالناصر، وهكذا صدرت مجلة التحرير التى رأس تحريرها.

أحمد حمروش أحد الوجوه العسكرية التى أثبتت نجاحها فى بلاط صاحبة الجلالة صحفيًا وكاتبًا ورئيسا للتحرير فى جميع المجلات والصحف التى تولى مسئوليتها منذ مجلة «التحرير» حتى « روزاليوسف».

أحمد حمروش تصدى لمهمة جديرة بالتسجيل والإعجاب، ألا وهى كتابة «ملحمة ثورة يوليو»، وقد صدر منها ثمانية أجزاء كان آخرها «غروب يوليو».

 قلت: بداية المشوار الصحفى بعد ثورة يوليو؟

قال الأستاذ أحمد حمروش: بعد أن نجحت حركة الجيش فى 23 يوليو سنة 1952، كنت فى هذا الوقت مسئولا عن حركة الضباط فى الإسكندرية، وفوجئت بأنه مطلوب منى الانتقال إلى القاهرة، وطلبت أن أكون فى إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة، وهذا كان يتجاوب مع هوايتى التى تمثلت فى الكتابة فى الصحف منذ أواسط الأربعينيات فى صحف ومجلات الفصول والأهرام والقصة.

فى الإدارة العامة كان يزاملنى بعض الضباط، مثل مصطفى بهجت بدوى ووجيه أباظة وكمال الحناوى، يجمع بينهم ثقافات وهوايات أدبية وفنية، لذا فقد فكرت فى إصدار صحيفة أو مجلة تعبر عن حركة الجيش، ولم أتردد فى عرض الفكرة على جمال عبدالناصر، وكان كل شىء فى الأيام الأولى للثورة يمكن تحقيقه بصورة ثورية، ووافق عبدالناصر وبدأت فى التنفيذ، ووافق على العمل معى عدد كبير من الأصدقاء والزملاء الصحفيين، منهم عبدالرحمن الشرقاوى وعبدالمنعم الصاوى وسعد لبيب وصلاح حافظ ود. يوسف إدريس وحسن فؤاد.

ولما لم تكن هناك ميزانية لإصدار المجلة ذهبنا إلى دار الهلال وقابلنا المسئولين فوافقوا على طبعها على أن نسدد التكاليف من المكسب.. وصدر العدد الأول فى 16/9/ 1952.

وأذكر أننى أخذت العدد الأول من مجلة «التحرير» وذهبت به إلى جمال عبدالناصر؛ لصداقتى القديمة به، ولعلمى عن دوره فى تنظيم الضباط الأحرار، فقلَّب عبدالناصر العدد بين يديه ثم قال لى: والله حاجة كويسة.. بس وريها للإخوان «يقصد زملاءه فى مجلس الثورة».

 فى نفس الوقت كانت نسخ المجلة فى المخازن فى انتظار توزيعها فى اليوم التالى، ولما عرضت المجلة على «صلاح سالم» قال لى: أنتم هتوزعوها مجانًا؟ فقلت له بدهشة: ليه هى نشرة «سفارات»؟

بعدها ذهبت إلى كمال الدين حسين الذى تصفحها ووقف عند تحقيق صحفى مع رؤساء تحرير الصحف المصرية ومنهم أحمد أبوالفتح وأحمد الصاوى محمد وكامل الشناوى وآخرون، ومع التحقيق صورة لى ومصطفى بهجت بدوى، فقال لى كمال الدين حسين مستغربًا: الله.. هو أنتم بقيتم من كبار الصحفيين.

أدهشتنى طريقة التفكير وذهبت إلى جمال عبدالناصر وقلت له: يبدو أن الإخوان عندما عرضت عليهم المجلة للأسف مش فاهمين حاجة، فأرجو أن تعتبرنى متحملاً مسئولية هذه المجلة، وأنت أيضًا تتحمل المسئولية معى لأنك وافقتنى على أن أصدرها.

ضحك عبدالناصر وقال بسماحة وطيبة: يللا.. روح وزع المجلة.

ووزعنا من العدد الأول حوالى 130 ألف نسخة، وصارت المجلة حديث الناس فى كل مكان؛ لأسباب عديدة، من بينها أننا نشرنا بعض الأسرار والأخبار التى حصلنا عليها من مصادرنا، ولأول مرة يقرأ الناس لعشرات الأسماء اللامعة فى مجلة واحدة، وأنها مجلة الثورة، ولكن منذ العدد الأول بدأت حملة هجوم على مجلة «التحرير» من بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أصحاب الاتجاهات المحافظة والذين لم يكن فكرهم متطورًا بدرجة تطور فكر منشورات الضباط الأحرار أو فكر جمال عبدالناصر، فبدأت الحرب وأثاروا الناس وكذلك الضباط.

وبعد شهرين من صدور المجلة، وكنت قد دخلت كلية أركان حرب، فوجئت بخبر منشور فى جريدة المصرى باستبدالى بثروت عكاشة رئيسًا للتحرير، وكان برتبة صاغ وقتها، وفوجئت بجمال عبدالناصر يطلبنى ويلح علىَّ فى الكتابة ولكنى رفضت، وبعدها اعتُقلت.

قلت: يلاحظ المتابع للصحافة المصرية تسلل الضباط الأحرار إلى مناصب رؤساء التحرير ومجالس الإدارات.. لماذا؟

- قال الأستاذ أحمد حمروش: حرص جمال عبدالناصر دائمًا على وضع العسكريين فى رئاسة مجالس إدارات الصحف ورئاسة تحريرها، والبداية مع الصحف والمجلات التى أصدرتها الثورة لتعبر عنها. فمجلة التحرير تولى رئاسة تحريرها ثروت عكاشة بعد إعفائى من العمل فيها فى شهر نوفمبر 1952، ثم ضمّت إلى دار الجمهورية، حيث كان أنور السادات رئيسًا لها بعد إعفاء ثروت عكاشة أيضًا.

«المساء» تولى رئاستها خالد محيى الدين، ثم مصطفى المستكاوى.

«الشعب» تولاها صلاح سالم ثم لطفى واكد حتى انضمت إلى جريدة الجمهورية.

«بناء الوطن» المجلة الشهرية رأسها أمين شاكر، و«الثورة» كانت مجلة أسبوعية أصدرتها منظمات الشباب ورأسها صاغ وحيد الدين جودة رمضان.

وعُهِد إلىَّ بإصدار مجلة أسبوعية جديدة تحت اسم «الفجر» عام 1956، وشكلت لها مجموعة تحرير ضمت محمود أمين العالم، سعد لبيب، منير حافظ، صالح مرسى، راجى عنايت، رسام الكاريكاتير جورج البهجورى، ولكنها لم تصدر رغم طبع ثلاثة أعداد منها للتجربة، ولم يكن هناك جواب شافٍ حول: لماذا لم تصدر؟ نعم كل الصحف التى أصدرتها الثورة رأسها عسكريون، ولكنها لم تكن جميعا تعبر عن رأى واحد.

جريدة المساء لعبت دورًا فى ظهور الفكر اليسارى المتقدم ومخاطبة الجماهير بآراء يسارية متحررة، واهتمت بقضايا الثقافة الجديدة، وتابعت قضايا المجتمع متابعة موضوعية تميزت بها عن غيرها من الصحف، بينما مجلة «بناء الوطن» مثلاً كانت تدعو إلى الاقتصاد الحر والثقافة الغربية، وجريدة الجمهورية عانت من انقلابات إدارية وفكرية لكثرة تغيير الذين تولوا مسئوليتها بعد أنور السادات.

كانت الأيديولوجية ما زالت غائبة فى ذلك الوقت المبكر.. والحيرة طابع التصرفات.. والتجربة هى أساس الحركة.

 قلت: حتى الصحف الأخرى كالأهرام والأخبار وأخبار اليوم ودار الهلال وروزاليوسف، وهى صحف ومجلات كان لها وزنها من قبل ثورة يوليو، أدارها العسكريون فيما بعد.

قال: كانت الصحافة المصرية، التى تعتبر من أجهزة الدعاية شديدة التأثير فى العالم العربى، بعيدة عن التجاوب الحقيقى مع أفكار الثورة المتوهجة، وخاصة أن الرقابة كانت قد ألغيت تماما عام 1956، وكان ذلك أمرًا طبيعيًا، معظم أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها كانوا من أتباع النظام الملكى المنهار المروجين له، الصحف الوفدية التى تولت – إلى حد ما- معارضة الملك وتجاوبت مع إرادة الجماهير صُودرت واختفت مثل: «المصرى، وصوت الأمة»، وكل الجرائد والمجلات اليسارية صودرت أيضا.

صحف أخبار اليوم يملكها على ومصطفى أمين ودورهما معروف فى تأييد الملك ودعم صُحف الإثارة والترويج للسياسة الأمريكية، والأهرام كانت ملكًا لأسرة تقلا وظلت خلال تاريخها الطويل بعيدة عن المساهمة الايجابية مع الإرادة الشعبية المصرية، مغلبة الاعتدال والاتزان فى كل شىء، وصحف روزاليوسف يملكها إحسان عبدالقدوس ويشاركه فى صدورها مجموعة من الشباب ذوى الآراء السياسية المختلفة، وهى فى آرائها السياسية وأسلوبها الصحفى المتميز بالنقد لا يمكن أن تكون تابعة فى سكون!

ولم يتغير أحد من المسئولين عن تحرير هذه الصحف بعد الثورة، ولم يؤثر نشر كشف المصاريف السرية عام 1954 على موقع أحد فى المسئولية، ولم يدخل التطهير دارًا من دور الصحف، وعندما تقرر تنظيم الصحف؛ أى تمليكها للاتحاد القومى وإعطاؤه سلطة الإشراف عليها، وكان ذلك من مؤشرات التأميم المبكرة - تولى الضباط منصب العضو المنتدب فى المؤسسات الصحفية، وكان صلاح سالم رئيسًا لدار التحرير، وحسنين هيكل الصحفى المقرب من عبدالناصر رئيسًا لمؤسسة الأهرام ودار الهلال بعد ضمهما لبعضهما وتولى رئاسة مؤسسة أخبار اليوم!

 قلت: ما الفرق بين تجربة التحرير وتجربة الجمهورية؟

قال أحمد حمروش: فى البداية أقرر أن مجلة التحرير لم تحتضن أى  اتجاه فكرى محافظ، حتى الكتاب والصحفيين الذين ساهموا فى تحريرها وكانوا من المشهورين والمعروفين قبل قيام الثورة كانوا من أصحاب الفكر المتفتح وليسوا من أصحاب الاتجاهات الرجعية المعروفة بصلاتها بالقصر الملكى أو الاحتلال. مثلاً الأستاذ «أحمد أبوالفتح» كاتب وصحفى وفدى وطنى مستنير، كامل الشناوى كان على علاقة طيبة بالمجلس العالمى للسلام.

لقد أعطى نجاح مجلة «التحرير» نوعًا من الإغراء للثورة أن تدخل مجال الصحافة اليومية، كانت الأنفاس قد هدأت واستقرت الأمور، ولم يعد الضباط يأكلون سندوتشات الفول! وبدأ التفكير فى إصدار جريدة «الجمهورية»، وحشد لها أعظم الناس والفنانين والكتاب وأجريت تجارب على مدى أسابيع وشهور، إلى أن صدرت فى أكتوبر عام 1953، وكان صدورها مقترنا ببرود شديد، ولم تستطع جذب القراء إليها!

قلت: لماذا؟ رغم أن من كتابها طه حسين، ولويس عوض ومندور وآخرين؟

قال : هذا صحيح، وعندما كنت تقرؤها كنت تحس فعلاً أنك أمام جريدة دسمة ومصروف عليها كويس، لكن إحساس الجماهير بها كان مفتقدا. تفسيرى لذلك يكمن فى القيادة التى كانت توجه الجمهورية والفكر الذى يوجهها! أقصد أن النبض الحقيقى للجماهير لم يكن موجودا على صفحاتها. الجماهير الراغبة المتطلعة للتغيير، وأنا- هنا- أريد أن أضع حدا فاصلا بين عام 1952 وعام 1953، ففى عام 1952 كان كل الناس مع الثورة، أما فى عام 1953 فكانت الثورة قد ضربت الأحزاب وألغت الدستور، وبدأ يتكون لها أعداء من الجبهة الداخلية سواء من الوفديين أو الشيوعيين أو الإقطاعيين، فكان صدور الجريدة فى هذا الوقت من المفروض أن يعبر عن هذا، وفى اعتقادى أن هذا لم يحدث!

ومن الجائز أن تجد جريدة تستخدم التكنيك الصحفى، وأن تكون لها رؤية ممتازة للأمور، ومع ذلك ينصرف الناس عنها، ولا يصل فكرها إليهم.

فمثلا جريدة الأخبار عندما أصدرها مصطفى وعلى أمين، فى البداية لم يزد توزيعها على 30 ألف نسخة، رغم أن مصطفى وعلى مدرسة صحفية ليس فى هذا أدنى شك، وكانت هناك جريدة المصرى لأحمد أبوالفتح وتوزيع مائة أو 200 ألف لأنها - ببساطة - جريدة شعبية كان القراء والناس يجدون أنفسهم على صفحاتها!

والذى أنقذ صحيفة الأخبار حقيقة هو قيام ثورة يوليو 1952، فقد التقط مصطفى وعلى أمين ضيق الناس من الملك والنظام السابق ورغبتهم فى شىء جديد، فأخذا ينشران قصة الملك فاروق كاملة، وفضائح العهد السابق، وارتفع توزيع الأخبار بشكل خرافى، أما جريدة الجمهورية فلم تفعل ذلك.