أديس أبابا تبنى نهضتها المزعومة على جثث جيرانها
ظاهرها «الإعمار» وباطنها «الاستعمار» بروتوكولات حكومة إثيوبيا!
داليا طه
المتابع لما يحدث فى القارة الإفريقية خلال العقد الماضى سيجد أن أديس أبابا تحاول التسويق لسياستها تحت مسمى «الإعمار»؛ لكن على أرض الواقع نكتشف فى كل خطوة أنها «استعمار».
تلك الرؤية الاستعمارية يؤكدها ما يحدث فى «صوماليا لاند» وما يحدث من تجاوزات مع جارتها «السودان».
الصورة الكاملة تؤكد -بما لا يدع مجالًا للشك- أن لإثيوبيا مطامع استعمارية في القارة السمراء، تريد أن تبنى أحلامها على جثث جيرانها.
والتاريخ يقول أن كل من يسلك هذا المسار «يقتله طموحه.. ويموت صريع أطماعه».
أغلقت السلطات بالسودان معبر القلابات الحدودى مع إثيوبيا بعد سيطرة ميليشيات الفانو المتمردة بإقليم الأمهرا على المعبر فى الجانب الإثيوبى، وتوقفت على إثر ذلك أنشطة التجارة الحدودية بين السودان وإثيوبيا بجانب توقف إجراءات السفر والجوازات.
وسمحت السلطات السودانية لعناصر الشرطة الفيدرالية والجيش الإثيوبى التى كانت ترابط على المعبر بالدخول للأراضى السودانية بعد تجريدهم من السلاح، وسمحت ميليشيات فانو فى المقابل للسودانيين العالقين داخل الحدود بالسفر والمغادرة.
وسيطرت ميليشيات فانو المتمردة فى إقليم الأمهرا الإثيوبى المحاذى لولاية القضارف على منطقة المتمة يوهانس الإثيوبية المحاذية لمدينة القلابات السودانية التابعة لمحلية باسندة بولاية القضارف.
وقالت مصادر مطلعة إن «ميليشيات فانو سيطرت بالفعل على المتمة الإثيوبية والمعبر الرابط بينها والسودان وفق ترتيبات عسكرية لقطع إمدادات السلع الغذائية والوقود القادمة من السودان لإقليم الأمهرا لإحكام السيطرة العسكرية وإعلان سيطرة فانو الكاملة على إقليم الأمهرا».
وطبقا للمصادر، أبدى عدد من السكان الإثيوبيين والتجار فى المتمة تضامنهم مع الفانو لتسهيل عملية السيطرة على المتمة والمعبر والحركة التجارية، بينما تمركز الجيش الإثيوبى فى محافظة شهيدى حيث يسيطر على المنطقة.
وتأتى هذه التطورات وسط مخاوف على الوضع الأمنى والإنسانى لآلاف اللاجئين السودانيين فى منطقة المتمة الإثيوبية.
ولا شك أن ملف الصراع السودانى يحتل مكانة متقدمة من حيث الأهمية للجانب الإثيوبى، لتشابك المصالح المشتركة أمنيا وجغرافيا وسياسيا واقتصاديا وتاريخيا وإثنيا، مثلما أن إثيوبيا تعد الدولة المركزية من الناحية الجيوسياسية للسودان، ولاعتبارات أكثر أهمية فإن إثيوبيا هى الدولة المركزية أفريقيًا وإقليميا التى تحتضن مقر المنظمة الأكثر فاعلية (الاتحاد الأفريقي)، مثلما أن إثيوبيا هى مقر لمبادرة دول حوض النيل الشرقى التى تضم الدول الثلاث، دولة المنبع إثيوبيا ودولتى المصب مصر والسودان، ويبقى ملف سد النهضة هو الملف الخلافى الأبرز بين الدول الثلاث، مثلما أن قضية ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا لم تكتمل خاصة فى منطقتى الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى التى استردت القوات المسلحة 90 % منها فى الحرب الأخيرة ولم تتم عملية ترسيمها حتى الآن.
الجوار الإقليمى
على صعيد الحسابات الإقليمية أفريقيًا، فإن ارتباط السودان بجوار يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقًا يضعه فى دائرة التفاعلات بمنطقة القرن الإفريقى، وهو ما يعزز من مكانته كلاعب مهم فى منطقة الساحل الإفريقى، ومن بين المفارقات اللافتة فى المشهد السودانى الحالى، أنه رغم كون الأزمة الحالية هى الأكثر تعقيدا وحدة منذ سقوط البشير فى إبريل 2019، فإنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية من دول جوار السودان مقارنة بمختلف الأزمات السابقة المتعاقبة فى الأعوام الأربعة الأخيرة، هذا الاتجاه الذى لم يكن متوقعا لسلوك دول الجوار لكنه لا يعكس عزوفًا من جانب هؤلاء اللاعبين الإقليميين أو تقديرا لمحدودية مصالحهم المتأثرة بما يجرى فى السودان، وإنما جاء نتيجة مباشرة لمستوى الخطورة المرتفع للأزمة الحالية التى تحمل فرصًا حقيقية لإدخال السودان فى حالة من الصراع الداخلى.
المخاوف تزداد لاحتمال أن يتحول الصراع مستقبلا لصراع إقليمى متعدد الأطراف، على هذا بنيت العديد من التصريحات والمواقف التى تُعد انعكاسا لحساسية الموقف الميدانى على الأرض.
لقد جسدت المواقف الإثيوبية بصورة واضحة ما يجرى فى السودان لحساباتها تجاه الأزمة الحالية وتأثيرها على مآلات الأوضاع المستقبلية على مستوى السودان والإقليم بشكل عام، فقد مرت إثيوبيا بسلسلة من الأحداث الكبرى سياسيا وعسكريا، وهو ما واكب الأوضاع المضطربة فى السودان مما كان له انعكاسات مباشرة على موقف الحكومة الإثيوبية من الصراع بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع.
الميل الإثيوبى الواضح لقوى الحرية والتغيير برأى العديد من المراقبين على حساب الجيش السودانى، ومحاولة استغلال الوضع المتأزم فى البلاد بهدف خلق دور إقليمى لإثيوبيا، على نحو ما ظهر فى الحراك الإثيوبى الذى تعثر فى إحداث توافق سياسى بين الطرفين المدنى والعسكرى بعد سقوط الإنقاذ، وذلك خلال الفترة بين فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة فى الثالث من يونيو 2019، وحتى توقيع الوثيقة الدستورية فى 17 أغسطس 2019، وفى تلك الفترة حاول رئيس الوزراء الإثيوبى الاستفادة من تفويض (إيغاد) التى كان يرأسها بغية التوصل لاتفاق مع الأطراف السودانية.
وقد نتج عن تصاعد الصدام بين القوات المسلحة السودانية والجانب الإثيوبى حول منطقتى «الفشقة» الكبرى والصغرى الذى يعود لتسعينيات القرن العشرين، سلسلة من المواجهات المسلحة تمكن فيها الجيش من استرداد نحو 90 % من الأراضى السودانية، لقد فجرت المواجهات المسلحة بين الطرفين حالة من العداء بينهما، خاصة فى ظل خطاب عدائى للحكومة الإثيوبية بأن التحركات العسكرية السودانية جاءت مستغلة للحرب فى إقليم تيغراى، وهى خطوة لإعادة تموضعها تبعدها عن الخرطوم وتقربها أكثر من القاهرة.
وقد مارست إثيوبيا المزيد من الضغوط على السودان إعلاميا ودبلوماسيا للتأثير على المواقف السودانية المرنة من سد النهضة والمتماهية مع الموقف المصرى (بحسب إثيوبيا) من الملف إبان حكومة ما بعد التغيير، وتوالى الاتهامات للسودان بدعم جبهة تحرير تيغراى بعد تفجر الصراع فى الإقليم فى نوفمبر 2020.
التفوق الميدانى الواضح من اليوم الأول للقوات المسلحة السودانية، خاصة فى أقاليم شرق السودان ذات الحدود المشتركة مع إثيوبيا والتى كانت الأسبق فى إعلان إحكام القوات المسلحة على مقار الدعم السريع الذى لا يزال يتم التعامل معه باعتباره كيانا «غريبا» عن ولايات الشرق.
الرغبة الإثيوبية فى تجنب إثارة المزيد من التوجهات الشعبية العدائية لدى قطاعات سودانية عديدة، مما قد ينعكس سلبًا على مستقبل العلاقات فى مرحلة ما بعد انتهاء المواجهة العسكرية على نحو ما تجسد فى النفى السريع للحكومة الإثيوبية للأنباء التى أشارت لتمدد عسكرى إثيوبى جديد فى الفشقة الصغرى استغلالًا للوضع المضطرب فى السودان.
ويبدو أن الموقف الإثيوبى على وجه الخصوص من الأزمة السودانية قد غلب عليه التحفظ والتحرك وفق خطوات محدودة محسوبة، وهو ما لا يمكن قراءته باعتباره مؤشرا على تراجع الاهتمام الإثيوبى بالسودان، بقدر ما يشير لإرجاء عودة النشاط الإثيوبى على الساحة السودانية فى المرحلة التالية للصراع لحتمية العلاقات المتشابكة بين البلدين الجارين سياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا.