
د. نادر مصطفى
عين على الهند
«مودى» بين «بوتين» و«زيلينسكى»
منذ اندلاع الحرب «الروسية -الأوكرانية»، حافظت الهند على علاقات وثيقة بروسيا، فلم تدن الهجمات الروسية، ولم ترضخ للضغوطات الغربية بفرض عقوبات على موسكو أو التوقف عن استيراد النفط الروسى؛ بل على العكس ارتفعت واردات الهند من النفط الروسى فى شهر يوليو الماضى لتسجل مستوى قياسيًا غير مسبوق، لتصبح نيودلهى أكثر الدول استيرادًا للنفط من موسكو، متجاوزة بكين.
وصل مودى إلى كييف قبل أسبوع، ليصبح بذلك أول رئيس وزراء هندى على الإطلاق يزور أوكرانيا. يأتى ذلك عقب زيارته لموسكو يوليو الماضى، حيث عقد اجتماعا وديًا مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وهى الزيارة التى أغضبت أوكرانيا والولايات المتحدة، ووصفت وزارة الخارجية الأمريكية علاقات الهند مع روسيا بغير المرغوب فيها.
زيارة مودى لأوكرانيا بداية جديدة للبلدين لبناء الثقة المتبادلة، وتوطيد العلاقات الثنائية فى قطاعات الأعمال والثقافة وخلق فرص للتواصل على أعلى المستويات، واتفق البلدان على «استكشاف إمكانية مشاركة الشركات الهندية فى إعادة إعمار أوكرانيا»، ودعا مودى زيلينسكى لزيارة الهند.
انتقد مودى الحرب الأوكرانية خلال محادثاته مع بوتين حيث قال: «الحلول غير ممكنة فى ساحة المعركة. لا يمكن أن تنجح محادثات السلام وسط البنادق والرصاص والقنابل. علينا أن نجد الطريق إلى السلام فقط عبر المحادثات. وهو ما أكده أيضا أثناء لقائه زيلينسكى، حيث قال إنه جاء إلى أوكرانيا حاملًا رسالة «سلام»، وإنه مستعدّ لأداء أى دور كـ«صديق» للمساعدة على تحقيق السلام.
يربط الولايات المتحدة وحلفاءها مع الهند فى السنوات الأخيرة علاقات اقتصادية وسياسية وجيوستراتيجية قوية، على الجانب الآخر تشكل القوة الروسية والصينية مصدر قلق كبيرًا للغرب.
لذا يحاول الغرب إدارة الوضع الهندي-الروسى عبر نوع من عمليات الاحتواء الدبلوماسى مستخدمين ما اكتسبوه من نفوذ وعوامل ضغط مختلفة من علاقاتهم المتنامية مع الهند لضمان التقليل قدر الإمكان من الفوائد التى تعود على روسيا من علاقاتها مع الهند.. وهى مهمة ليست سهلة بالتأكيد على الجهود الغربية الرامية إلى إضعاف الشراكة بين الهند وروسيا، فالروابط بين البلدين تصل لمستوى الشراكة الاستراتيجية ويتضح ذلك فى الحجم الهائل للتجارة والروابط الدفاعية الراسخة والتعاون فى قطاعى النفط والطاقة النووية، ونمت التجارة بين روسيا والهند بنسبة 66% عام 2023. كما تعد المنتجات الزراعية والأسمدة من بين واردات الهند الرئيسة من روسيا. ولا تزال تستخدم الهند إلى حد واسع المعدات العسكرية الروسية رغم تزايد مشترياتها من الأسلحة من الولايات المتحدة وغيرها من الشركات الغربية.
تتمتع الهند بشراكة استراتيجية ومتميزة مع روسيا، لذا فعليها أن تقدم شيئا للغرب كتعويض عن موقفها من الحرب الروسية- الأوكرانية، حيث تحاول أن تلتزم الحياد فى الصراع وتسعى إلى علاقات متوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا. وهو ما لا يرضى أوكرانيا والغرب، حيث تواجه الحكومة الهندية ضغوطًا علنية من السياسيين الأميركيين وكبار رؤساء وسائل الإعلام الغربية عليها. فقد أعرب المسئولون الأمريكيون عن قلقهم من لقاء مودى مع بوتين، وأعرب الكثيرون فى الغرب عن إحباطهم وغضبهم من الزعيم الهندى
التقى مودى الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، ست عشرة مرة فى آخر عشر سنوات، سواءً من خلال اللقاءات الثنائية أم فى أطر متعددة الأطراف؛ إلا أن الزيارة الأخيرة جاءت فى ظل تحولات كبرى جرت فى السنوات الأخيرة؛ إذ شهدت علاقات الدولتين مع القوى الأخرى تطورات كبيرة؛ إذ وثَّقت كل دولة منهما علاقاتها مع خصوم الدولة الأخرى؛ فروسيا والصين أصبحتا فى شراكة استراتيجية، بينما وثَّقت الهند علاقاتها مع الدول الغربية، خاصةً الولايات المتحدة وحلفاءها فى آسيا، والذين هم إما فى حالة عداء مع روسيا أو على الأقل فى حالة خلافات سياسية معها.
تحرص الهند على تحقيق نوع من توازن القوى الإقليمى من خلال تعزيز علاقاتها مع روسيا، التى يمكن أن تعمل كحلقة وصل كقوة آسيوية لا غنى عنها فى التواصل مع القوى النووية الثلاث: الصين، وباكستان، وكوريا الشمالية.
كما يمكن لروسيا أن تساعد الهند على الاضطلاع بدور سياسى واقتصادى نشط فى أفغانستان وفى منطقة آسيا الوسطى ذات الأهمية الجيوستراتيجيةلها.
توطيد الهند علاقتها بروسيا يساعدها فى مواجهة أى تداعيات مستقبلية، لتنامى علاقات روسيا مع كل من الصين وباكستان، لأن تعزيز الشراكة الروسية - الصينية قد يثير قلق الهند فى ظل نزاعاتها الحدودية مع الصين.
من جهتها تحقق روسيا أيضًا عدة مكاسب من الاحتفاظ بعلاقاتها القوية مع الهند، أولها تعزيز روابطها مع الدول الصديقة فى ظل العقوبات الغربية المتكررة عليها والتى امتدت مؤخرًا لتشمل صادرات روسيا من الغاز المسال، إذ يرى بوتين فى رئيس الوزراء الهندى، مودى، حليفًا دبلوماسيًا واقتصاديًا رئيسيًا، ووصفه سابقًا بأنه «صديق روسيا الحقيقي»، بعد أن أثبت موقفه كشريك تجارى واستراتيجى مهم يمكن لروسيا الوثوق به والاعتماد عليه؛ إذ فتحت الهند أسواقها أمام النفط الروسى بعد إغلاق معظم الأسواق الغربية أمام الصادرات الروسية، وشهدت التبادلات التجارية بين الدولتين نموًا متسارعًا، بقيمة بلغت 50 مليار دولار فى عام 2022، ثم تجاوزت 62 مليارًا فى عام 2023. ويتوقع أن تتجاوز 70 مليار دولار بنهاية العام الجارى 2024؛ ولمواجهة أزمة الدولار التى تعانيها موسكو بعد استبعادها من نظام «سويفت» المالى العالمى تقوم الهند بتسوية مبادلاتها التجارية مع روسيا بالعملة المحلية.
كما تسعى موسكو إلى توثيق علاقاتها مع الهند تحوطًا من تداعيات تنامى العلاقات الهندية الأمريكية عليها مستقبلًا، فقد أصبحت الولايات المتحدة شريك الهند التجارى الأول فى عام 2022، بإجمالى بلغت قيمته 119.5 مليار مقارنةً بنحو 80.5 مليار فى عام 2021، وهو أمر لا يثير حفيظة روسيا ما دام استمر الحياد الهندى، خاصة تجاه الحرب فى أوكرانيا، وطالما أن الهند لم تستجب للضغوط الغربية فى الانضمام للعقوبات ضد روسيا.