السبت 19 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (9) ترامب وإسرائيل فى «مساحة صغيرة» بين «بوب وودوارد» و«روبرت فيسك»

استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (9) ترامب وإسرائيل فى «مساحة صغيرة» بين «بوب وودوارد» و«روبرت فيسك»

«هذه مدرسة صحفية تدرك أن النفاذ إلى العمق، حق قارئ لا يعنيه ولا يرضيه أن تنحصر مهمة الصحافة فى مدح السلطان والإشادة بعظمته فيما فعل ولم يفعل، وتعرف- أيضا- أن قارئها يستطيع النظر إلى سطح الحوادث من متابعة التليفزيون، فى حين أن الكلمة المكتوبة- حياتها وشبابها- أصبحت موصولة بقدرتها على النفاذ إلى عمق لا تستطيع الصور أن تبلغه، أى بقدرتها على الذهاب وراء السطح بكل ما يتزاحم فوقه من اجتماعات واستقبالات ومراسم واحتفالات وتصريحات وبيانات، وتلك كلها فى هذه الأزمنة وسائل تزويق وليست مناهج توثيق!».



الكلام للأستاذ محمد حسنين هيكل، واصفا «صحافة التحقيق»، التى أثبتت كفاءتها فى النفاذ إلى دخائل السياسة، والغوص فى خباياها، وتغطية أكبر مساحة من وقائعها، وكشف أدق أسرارها، وجاء ذلك فى سياق الحديث عن الصحفى الأمريكى الشهير بوب وودوارد، الذى منحه هيكل لقب «عميد صحافة التحقيق»، أو ما سمى لاحقا «صحافة العمق»، وذلك فى مقدمة أحد فصول كتابه الشهير «الإمبراطورية الأميركية.. والإغارة على العراق».

وقد كنت أجهز لحلقة عن العراق وما يجرى فيها بفعل غزة وأشياء أخرى، حتى باغتنا المرشح الجمهورى دونالد ترامب لنغوص معه جبرا فى أو حال تصريحاته، فتغير الموضوع وبقى (بوب) هو بطلنا وإلى جانبه جرى استدعاء صديقxx آخر للأستاذ، إنه روبرت فيسك الصحفى البريطانى المخضرم والخبير بشئون الشرق الأوسط والذى يستحق أيضا لقب عميد، عميد المراسلين الصحفيين، والذى توفى قبل أعوام قليلة.

 ترامب ومساحة إسرائيل

كعادته فجر دونالد ترامب الرئيس الأمريكى السابق والمرشح الجمهورى الحالى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، موجة جديدة من الصخب السياسى بسبب تصريحات صحفية مثيرة أطلقها قبل أكثر من أسبوع، وقال فيها بحسب شبكة «سى إن إن» الأمريكية: «مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخارطة ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها»، وذكر ترامب عندما سئل عما إذا كان يشجع نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار: «لا، لم أشجعه، فهو يعرف ما يفعله». وأضاف فى المؤتمر الصحفى الذى عقد بمنزله فى ولاية نيوجيرسى، أنه أخبر نتنياهو «أن يحقق انتصاره.. وينهى هذا الأمر».

يصعب تجاوز تصريحات ترامب والتعامل معها بالسخرية فقط، فهى كارثية وتعكس رؤية استعمارية تبشر بأزمات مستقبلية جديدة فى منطقة الشرق الأوسط، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار ما قام به ترامب خلال ولايته الأولى (2016: 2020) من خطوات داعمة بتطرف شديد لإسرائيل، ومنها إعلانه اعتراف بلاده رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل فى ديسمبر عام 2017، ثم منحه مرسوم اعتراف رسميًا لإسرائيل بسيادتها على الجولان السورية فى مارس 2019، فيما سمى بـ«وعد ترامب» استنساخا من «وعد بلفور» الشهير الذى صرح بتأسيس وطن قومى لليهود فى فلسطين عام 1917، وكلاهما ينطبق عليه مقولة «من لا يملك أعطى لمن لا يستحق»، ونتمنى ألّا يفعلها ترامب مجددا حال نجاحه فى الانتخابات القادمة ويكرر عطاياه (المسروقة) إلى معشوقته إسرائيل.

 بوب وودوارد وترامب

وقد ألهم دونالد ترامب بغرائبه وأعاجيبه الكثير من الكتاب الأمريكيين فأصدروا الكتب عنه، يرصدون فيها فترة ولايته الأولى بكل ما احتوته من مفاجآت وترهات، وقد خصه بوب وودوارد، بأربعة كتب متنوعة ترصد تجربته التى استنفرت حواس الصحفى الكبير ليرصد المخفى والمعلن فيها، استطلع فى أولها آراء شبكة الموظفين العاملين معه فى البيت الأبيض، ثم قام بإجراء حوارات مباشرة مع ترامب نفسه، كله كشفت لعميد الصحافة الاستقصائية فى العالم شخصية ترامب العبثية، والتى اختصرها الكاتب الكبير فى كلمات قصيرة، قائلًا: «تركيزه على ذاته وإعجابه بها يشل حركته.. إنه خطر لا مثيل له.. يعتمد على غرائزه كأساس للقرارات الكبرى».

وكان كتاب بوب الأول عن ترامب «الخوف: ترامب فى البيت الأبيض» قد صدر سنة 2018، وباع أكثر من 1.1 مليون نسخة فى الأسبوع الأول من نشره، ثم أجرى وودوارد عدة مقابلات مع ترامب من أجل كتابه الثانى «الغضب»، وتم طرحه فى المكتبات فى سبتمبر 2020. ثم أصدر وودوارد كتابه الثالث «أشرطة ترامب»، وهو كتاب صوتى يضم 8 ساعات من التسجيلات الخام للمقابلات مع ترامب يتخللها تعليق المؤلف، وعرض الكتاب الصوتى للبيع فى أكتوبر 2022.

أما الكتاب الأخير فهو «الخطر» والذى تشارك فيه بوب وودوارد مع الكاتب الصحفى روبرت كوستا مراسل صحيفة «واشنطن بوست»، ويستند إلى مقابلات مع أكثر من 200 شخص تحدثوا للمؤلفين شريطة عدم ذكر أسمائهم، ويرصد الكتاب القلق الكبير الذى اجتاح الأوساط السياسية الأمريكية من تصرفات ترامب عقب خسارته للانتخابات، ويحكى غرائب وطرائف عديدة جرت خلال الفترة الأخيرة لحكم ترامب، وكان بوب قد ختم كتابه «الغضب» بهذه الجملة الموحية: «عندما يتم أخذ أدائه كرئيس فى مجمله، يمكننى فقط التوصل إلى نتيجة واحدة: ترامب هو الرجل الخطأ لهذا المنصب».

 روبرت فيسك فى لبنان

وقد أثار حديث ترامب الماجن حول «مساحة إسرائيل» القلق فى دول الجوار الثلاثة التى تحيط بحدود إسرائيل (مصر والأردن ولبنان)، بعد أن ضمنت تل أبيب الجولان السورية فى الماضى القريب، وفى الحاضر تستعد لتلتهم غزة والضفة وكلاهما سيفجر الحدود مع مصر والأردن، فيما تنتظر لبنان منذ أسابيع اشتعال جبهتها الجنوبية بحرب مفتوحة بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلى.

وهنا يأتى دور روبرت فيسك، ومقاله «أمريكا تنبطح لإسرائيل» المنشور فى صحيفة «الإنتدبندنت» البريطانية فى مارس 2019، بعد أيام من وعد ترامب الذى منح فيه إسرائيل السيادة على الجولان، ويستهله متسائلًا: «هل هناك أى دولة أخرى على وجه الأرض تتجرأ أمريكا على التآمر معها إلى هذا الحد؟»، ثم يحكى فى مقطع آخر، قائلًا: «أدهشنى شيء قاله نتنياهو ردًا على توقيع ترمب على وثيقة الجولان المشينة: قال إن «جذور الشعب اليهودى فى الجولان تعود لآلاف السنين». هذا صحيح. لكننى تذكرت على الفور أنه فى عام 1982، خلال أسابيع من الغزو الإسرائيلى للبنان، جال جنود إسرائيليون وضباط «الشئون المدنية» حول القرى الشيعية المسلمة والمسيحية فى جنوب لبنان، وقاموا بتوزيع استبيانات للعرب. رأيتهم يفعلون هذا. كانت الاستبيانات طويلة ومعقدة، وتسأل اللبنانيين هل كانت هناك بقايا أثرية يهودية على أراضيهم؟ هل كانت أى من مبانيهم القديمة تحوى علامات على إقامة اليهود فى العقود أو القرون السابقة؟ هل تحمل أى تلال أو قرى أسماء عبرية؟ لقد كانوا مهتمين بشكل خاص بالمنطقة داخل مثلث صور وصيدا وقانا».

ويكمل فيسك: «بالطبع، كان هناك العديد من المقابر اليهودية. حتى فى قرى تلال جبل الشوف الدرزية، وعثر على آثار الميزوزا اليهودية على إطارات الأبواب الحجرية، مما يثبت أن أصحابها القدامى اتبعوا تعليمات كتاب سفر التثنية (الكتاب المقدس). وقد دوّن الإسرائيليون بالطبع وجود هذه العلامات وقد أّشّر عليها بعض الأهالى إلى الجنود الإسرائيليين. ماذا لو- بعد حرب لبنان التالية- قررت إسرائيل أنه بدلًا من احتلال جنوب لبنان، فإنها ستضم المنطقة لأن «جذور الشعب اليهودى» هناك.. تعود لآلاف السنين».

تذكرت هذا المقال، مثلما تذكر روبرت فيسك (حرب لبنان 82) وقصة التوثيق الإسرائيلى لما تبقى من أثر على الحجر، يستغلوه فى استكمال سرقاتهم للأراضى العربية، بحجة الجذور، وخرافة العودة إلى أرض الميعاد. ما يزال لدى الكاتبين الكبيرين ما يقدمانه لنا فى قصتنا المستعصية على الحل، قصة الصراع العربى الإسرائيلى.

وبرغم وفاته قبل أربعة أعوام، إلا أن كتابه الجديد «خيانة الشرق الأوسط» يجمع العديد من المقالات المهمة لروبروت فيسك، فيما يصدر فى أكتوبر القادم كتاب «الحرب» لبوب وودورد، وهما سيجعلانا على موعد جديد معهما قريبا بصحبة الأستاذ هيكل، ليستمر الحديث.