السبت 21 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

المنافسة للاستحواذ على شريان الحياة للعصر الرقمى الكابلات البحرية.. ساحة صراع بين القوى العظمى

فى ظل تصاعد حدة التوترات فى مختلف مناطق العالم، وتزايد دائرة الضوء على فكرة تغير شكل النظام الدولى من أحادى القطبية، يقبع تحت سيطرة «الولايات المتحدة»، إلى شكل متعدد الأقطاب، وذلك مع صعود لاعبين آخرين على المسرح الدولى، وتحديداً «روسيا»، و«الصين».



فعلى الأرض، وفوقها، وتحتها.. براً، وبحراً، وجواً.. لم يسلم مجال واحد يصلح للتنافس من أجل الهيمنة، إلا واحتدت فيه المواجهة بين القوى الكبرى وازدادت شراسة مع الأيام.

وفى خضم تلك المنافسات والصراعات، اختلف شكل التصارع لدرجة أن البعض وصفها، بأنها حرب عالمية ثالثة، ذات طابع خاص يختلف عن الطابع التقليدى للحربين العالميتين السابقتين، بداية من المنافسة الاقتصادية، إلى المواجهات العسكرية، مروراً بالحرب السيبرانية. 

وبعيداً عن تلك المجالات السابق ذكرها للمنافسة، يبدو أن هناك مكانا آخر للمنافسة العنيفة بين القوى الكبرى فى قاع البحار، وهى «شريان الحياة للعصر الرقمي»، أى (الكابلات البحرية)، التى تشكل أهمية بالغة للبنية الأساسية للاتصالات العالمية، والتى تدعم كل شيء من المعاملات المالية إلى اتصالات الأمن القومى، مما يجعلها هدفاً رئيسياً فى المنافسة المتصاعدة بين بين «الولايات المتحدة»، و«الصين، وروسيا»، فضلاً عن الجهات الفاعلة الأخرى من الدول وغير الدول أيضاً. 

 

 

 

ولكن، ما هى الكابلات البحرية، ولماذا تتنافس عليها الدول الكبرى، وهل من ثغرات فيها، وكيف يهمين المتحكم فيها على العالم؟! 

أسئلة مثيرة للريبة، لخص إجابتها كل من: نائب الرئيس الأول ومدير مشروع الرخاء والتنمية فى الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) «دانييل إف. روندي»، وكبير باحثى برنامج آسيا فى مركز (CSIS) «إيرين إل. مورفي»، إلى جانب الباحث فى مركز (CSIS) «توماس برايجا».

الكابلات البحرية: ما أهميتها؟

إن كابلات الألياف الضوئية تحت سطح البحر، وهى البنية الأساسية الحاسمة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تحمل أكثر من %95 من البيانات الدولية، كما يبلغ عددها نحو 600 كابل (المخطط لها أو التى تعمل حاليًا فى جميع أنحاء العالم)، والتى تمتد على مسافة 1.2 مليون كيلومتر تقريباً، فهى الطرق السريعة للمعلومات فى العالم. 

تدعم هذه الكابلات الأنشطة الاقتصادية، والعمليات العسكرية، واستخدام الإنترنت اليومى. وبالتالى، فإن أمنها أمر بالغ الأهمية.

كما توفر الكابلات اتصالات النطاق الترددى اللازمة، لدعم شبكات الجيل الخامس، التى تنقل كل شيء، بداية من مقاطع الفيديو المتدفقة على الإنترنت، والمعاملات المالية إلى الاتصالات الدبلوماسية والاستخباراتية. 

هذا، بالإضافة إلى ما تشكله الكابلات البحرية من أهمية بالغة فى كل جوانب التجارة والاتصال التجارى، فعلى سبيل المثال، ينقل أحد البنوك الدولية الكبرى ما معدله 3.9 تريليون دولار عبر أنظمة الكابلات هذه كل يوم عمل. 

كما تشكل الكابلات العمود الفقرى للاتصالات العالمية والإنترنت، نظراً لأن بيانات المستخدم (على سبيل المثال: البريد الإلكترونى، وغيره) -غالباً- ما يتم تخزينها فى مراكز البيانات فى جميع أنحاء العالم، وتسهل هذه البنية الأساسية -بشكل فعال- الاستخدام الشخصى اليومى للإنترنت، والوظائف المجتمعية الأوسع. 

بالإضافة إلى ذلك، تعتمد الاتصالات الحكومية الحساسة -أيضاً- بشكل كبير على البنية الأساسية تحت سطح البحر. ورغم تشفير هذه الاتصالات، إلا أنها لا تزال تمر عبر خطوط الإنترنت التجارية، حيث تمر البيانات عبر البنية الأساسية تحت سطح البحر. 

وتعد إحدى المميزات الأخرى، هى أن الكابلات البحرية تحمل نطاقًا تردديا أكبر بكثير، وهى أكثر كفاءة وفعالية، من حيث التكلفة وموثوقية من الأقمار الصناعية، وبالتالى، يُنسب إليها الفضل فى زيادة الوصول إلى الإنترنت عالى السرعة فى جميع أنحاء العالم، وتغذية النمو الاقتصادى، وتعزيز فرص العمل، وتمكين الابتكار، وخفض الحواجز أمام التجارة. 

وعليه، أصبحت هذه الشبكات –الآن- روابط لا غنى عنها للعالم الحديث، وهى محورية للتنمية العالمية والشمول الرقمى.

ومن المتوقع -أيضاً- أن يزداد الطلب على موارد الحوسبة والتخزين فى مراكز البيانات فى أعقاب ثورة الذكاء الاصطناعى التى بدأت منذ سنوات قليلة، خاصة إذا كانت هذه الشبكات موجهة عالمياً، ما سيتطلب سعة إضافية تحت سطح البحر لربطها. 

الملكية والتحكم فى الكابلات

يتم بناء الكابلات البحرية، وامتلاكها، وتشغيلها، وصيانتها -فى المقام الأول- من قبل شركات القطاع الخاص.. حيث يتم تصنيع وتثبيت نحو %98 من الكابلات البحرية فى العالم من قبل أربع شركات خاصة. 

ففى عام 2021، استحوذت شركة «SubCom» الأمريكية، وشركة «Alcatel Submarine Networks» الفرنسية، وشركة «Nippon Electric Company»  اليابانية بشكل جماعى على حصة سوقية تبلغ %87، مع استحواذ شركة «HMN Technologies» الصينية، المعروفة سابقًا باسم «Huawei Marine Networks Co»، على 11 % أخرى. 

يمكن أن تكون الكابلات البحرية التجارية مملوكة لشركة واحدة، أو اتحاد من الشركات.. فتمتلك أو تستأجر كل من شركات: «أمازون، وجوجل، وميتا، ومايكروسوفت» –الآن- نحو نصف النطاق الترددى البحرى فى جميع أنحاء العالم، لأن -غالباً ما تؤجر الشركات النطاق الترددى على كابلاتها، ما يعمل على توسيع نطاق الكابل، وفائدته عبر قطاعات ومناطق مختلفة.

 نقاط ضعف أنظمة الكابلات وإمكانية استغلالها

بشكل عام، تكون الكابلات البحرية معرضة بشدة لخطر التعرض لعوامل متنوعة، فبعض الأضرار التى تلحق بالكابلات غير مقصودة، وتنجم -فى الأساس- عن تفاعل بشرى عرضى مع الكابلات، وتتراوح المخاطر بين تداعيات الصيد، والظروف الجوية القاسية، والزلازل والانهيارات الأرضية. 

ويقدر الضرر الذى يلحق بالكابلات البحرية بانقطاع 100 إلى 150 كابلاً كل عام.

ومع ذلك، تحتوى تلك الكابلات على مخاطر جيوسياسية وتكنولوجية على عدة نقاط الضعف فى الأنظمة تحت سطح البحر والخطوات، وهو ما يثير قلق «الولايات المتحدة»، خاصة مع الصعود التكنولوجى السريع لعدد من الدول حول العالم، وتحديداً «روسيا، والصين». 

كما يجعل حجم البنية التحتية تحت الماء، ومدى تعرضها للخطر هدفاً سهلاً للمخربين الذين يعملون فى «المنطقة الرمادية»، والتى تعنى (الأنشطة التى تقوم بها دولة ما، تضر بدولة أخرى، وتعتبر ظاهريا أعمال حرب، لكنها من الناحية القانونية ليست أعمالاً حربية).

على كل، كانت السنوات القليلة الماضية شاهداً على العديد من تلك الحوادث، وإن كانت غير متعمدة للبعض. 

ففى عام 2023، اتهمت السلطات التايوانية سفينتين صينيتين فى المنطقة بقطع الكابلين البحريين الوحيدين اللذين يزودان جزر «ماتسو» التايوانية بالإنترنت، مما أدى إلى إغراق سكانها -البالغ عددهم 14 ألف نسمة- فى عزلة رقمية لمدة 6 أسابيع، على الرغم من عدم وجود تأكيد واضح على وقوع هجوم متعمد. 

وبالمثل، فى أكتوبر 2023، تعرض كابل اتصالات فى بحر البلطيق يربط بين «السويد»، و«إستونيا» لأضرار، فى نفس الوقت الذى تعرض فيه خط أنابيب وكابل غاز بين «فنلندا»، و«إستونيا».. وقال وزير الدفاع المدنى السويدى «كارل أوسكار بوهلين » -حينها- إن الكابل السويدى الإستونى تضرر نتيجة قوة خارجية، أو عبث، مضيفا أن المسئولين الإستونيين خلصوا إلى أن الحوادث الثلاثة مرتبطة.

أين بدأت الأزمة بالنسبة للولايات المتحدة؟

بالطبع، كان ظهور «الصين» السريع كمزود ومالك للكابلات البحرية لمبادرة طريق الحرير الرقمى فى عام 2015، والتى تهدف إلى الاستحواذ على %60 من سوق كابلات الألياف الضوئية العالمية، من خلال الشراكة مع الاقتصادات الناشئة فى كل من: «آسيا، وأفريقيا، والشرق الأوسط، والمحيط الهادئ» بمثابة دق لناقوس الخطر.. وهو ما قوبل -على الفور- بمنع الشركات الصينية من مشاريع الكابلات البحرية التى تنطوى على استثمارات وشركات أمريكية، بسبب مخاوف على الأمن القومى الأمريكى، وفقاً لما يصرح به المسئولين الأمريكيين.

واتهم عدد من المسئولين الأمريكيين على مدار السنوات القليلة الماضية «الصين» بأنها تراقب البيانات التى تمر عبر الكابلات، أو حتى تُقطع دول بأكملها عن الإنترنت، وهو ما نفته السلطات الصينية مراراً. 

كما حذر المسئولون الأمريكيون وحلفاؤهم من أن عملية إصلاح وصيانة الكابلات البحرية فى المحيط الهادئ تجعلها أكثر عرضة للتجسس من السلطات الصينية، أو غيره من الجهات الفاعلة فى الدولة.

وفى سياق مشابه، أعربت «واشنطن» عن وجود مخاوف من أن شركات إصلاح الكابلات الصينية، قد تستغل تدفقات البيانات تحت الماء، أو رسم خرائط لقاع المحيط، من أجل إجراء استطلاع على روابط الاتصالات العسكرية الأمريكية، أو الحصول على بيانات موقع محددة للغاية من الوثائق الداخلية لأنظمة الكابلات، التى من شأنها أن تسمح للأطراف المتحاربة بقطع الكابلات بسرعة ودقة.

 التحركات الروسية تحت الماء

فى الوقت الذى يسلط العالم الضوء فى تلك الساحة على المنافسة بين «الولايات المتحدة»، و«الصين» إلى حد كبير، فإن التحركات الروسية للبنية التحتية تحت سطح البحر، تشكل مصدر قلق كبير بالنسبة للغرب فى حد ذاتها، رغم اعتماد «روسيا» بشكل أقل بكثير على الكابلات البحرية، مقارنة بـ«الولايات المتحدة»، أو «الصين»، بسبب موقعها كقوة قارية، ذات اتصال بالإنترنت بأوروبا، وآسيا الوسطى، وتركيز أقل على التجارة الدولية، إلا أن هذا الموقع عملة ذات وجهين، إذ يجعل «روسيا» –فى المقابل- أقل عرضة للانقطاعات فى البنية التحتية للكابلات البحرية. 

على كل، أعرب مسئولو الدفاع والأمن الغربيون –ولا يزالون- عن قلقهم الشديد –مما ادعوه- بالنشاط الأخير للأصول البحرية والاستخباراتية الروسية، بما فى ذلك: سفينة التجسس «يانتار»، والغواصات المتخصصة، مثل «لوشاريك»، إلا أن الغرب لم يقدم دليلا على التحركات الروسية فى هذا الصدد، سوى إشارات بأنه لوحظت السفينة «يانتار» وهى تبحر بالقرب من طرق الكابلات البحرية. 

ورغم عدم استدلال الغرب بحجة واضحة، فإنه استنتج وجود تهديدات روسية، لأن السفينة مجهزة بغواصات قادرة على قطع أو الاستفادة من هذه الكابلات، خاصة أن «موسكو» لم تغفل –بالطبع- الأهمية الاستراتيجية للكابلات البحرية، التى تنظر إلى هذه البنية الأساسية باعتبارها نقطة ضغط حاسمة ضد أمن الدول الغربية. 

ويتجلى هذا المنظور فى تصريحات كبار المسئولين الروس، مثل: نائب رئيس مجلس الأمن الروسى «دميترى ميدفيديف»، الذى أشار -فى أعقاب انفجارات خط أنابيب «نورد ستريم» فى عام 2023- إلى أن «روسيا» قد تستهدف كابلات الاتصالات البحرية، رداً على تورط الغرب المزعوم فى الانفجارات. 

وبالفعل، أثار هذا الخطاب -حينها- إلى جانب الأنشطة الروسية بالقرب من هذه البنية الأساسية الحيوية، مخاوف داخل حلف شمال الأطلسى (ناتو)، والدول المتحالفة معه، بشأن احتمالات التخريب الروسى، الهادف إلى تعطيل الاقتصادات، والاتصالات الغربية فى أوقات التوترات المتزايدة، أو الصراع الصريح.



فى النهاية، يبدو أن صراعا من نوع مختلف يشتعل تحت مياه البحار بين القوى الكبرى حول العالم، لأنه ببساطة.. من يملك الكابلات البحرية، ملك زمام الأمور من المعاملات المالية اليومية إلى المعلومات الاستخباراتية.