الخميس 17 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
72 سنة على ثورة يوليو 52..   توجهات وطنية وتداعيات طائفية!

72 سنة على ثورة يوليو 52.. توجهات وطنية وتداعيات طائفية!

لاحظت أن معظم الإسهامات الفكرية وغالبية الكتابات التى تناولت العلاقة بين البابا كيرلس السادس والرئيس جمال عبدالناصر.. تدور فى فلك كونها علاقة وطيدة منذ أن التقى الرئيس جمال عبدالناصر بالبابا كيرلس للمرة الأولى بعد توليه كرسى البطريركية فى 11 مايو سنة 1959. واقع الأمر يؤكد على حقيقة أخرى يجب ذكرها. وهى أن تلك العلاقة الثنائية.. كان يشوبها نوع من التوتر والفتور. وهو ما انتهى بزيارة البابا كيرلس السادس إلى الرئيس جمال عبدالناصر فى منزله فى 14 أكتوبر سنة 1959. وانتهت المقابلة بشكل حميم جدًا لدرجة الاتفاق على أن يكون الاتصال بينهما مباشرًا بحيث أعطى الرئيس الحق للبابا فى أن يطرق بابه فى أى وقت يشاء.. خاصة فى الزيارات المنزلية.



>ليست معجزة..

أذكر أن الراحل العزيز الأنبا أغريغوريوس «أسقف عام الدراسات العليا والثقافة القبطية والبحث العلمى» بالكنيسة الأرثوذكسية قد ذكر لى فى مقابلة شخصية معه.. حينما ذكرت له عدم اقتناعى بما يردده البعض من الكهنة فى عظاتهم المسجلة على شرائط كاسيت أو فى بعض الكتابات من أن قوة علاقة البابا كيرلس بالرئيس عبدالناصر تعود إلى معجزة شفاء قام بها البابا للرئيس تارة، ولأحد أبنائه تارة أخرى. خاصة أن شخصية الرئيس عبدالناصر فى تقديرى لا تتوافق مع مثل تلك الأطروحات. فاتفق معى الأنبا أغريغوريوس فى الطرح السابق، بل وأكد ذلك من خلال ما ذكره لى من مواقف تستحق أن تسجل للتاريخ، وهي: 

الموقف الأول: تم الاتفاق على تعيين «لجنة إدارة أوقاف البطريركية» مكونة من 12 عضوًا بعد إلغاء الانتخابات. وقام البابا حينذاك بتقديم قائمة بالأعضاء المقترحين؛ غير أن القرار الذى صدر.. تضمن استبعاد بعض الأسماء. وعندما اعترض البابا كيرلس السادس على ذلك، وعلم الرئيس عبدالناصر بالأمر.. قام بإصدار توجيهات بتكوين اللجنة طبقًا للقائمة التى قدمها البابا كيرلس.

الموقف الثاني: اعتذار البابا كيرلس السادس عن استقبال الأنبا مكاريوس فى المطار أثناء زيارته للقاهرة.. رغم كونه يجمع بين رتبته الدينية كأسقف، وكرئيس لدولة قبرص. 

الموقف الثالث: لم يستجب البابا كيرلس السادس إلى طلب الرئيس جمال عبدالناصر الذى نقله له د. رمزى أستينو حينذاك بحضوره لمطار القاهرة لاستقبال الإمبراطور هيلاسلاسى «إمبراطور الحبشة». ورغم ذلك صمم الإمبراطور على زيارة البابا كيرلس فى مقره ومعه لجنة الشرف المكلفة من رئاسة الجمهورية باصطحاب الإمبراطور فى زيارته، وهو ما نقل إلى الرئيس عبدالناصر فيما بعد. 

الموقف الرابع: دعا الإمبراطور هيلاسلاسى «إمبراطور الحبشة» لعقد مؤتمر لاهوتى كبير للكنائس الأرثوذكسية (المصرية والحبشية والسريانية والأرمينية..) فى سنة 1965. وذلك تحت رئاسة البابا كيرلس السادس، وحينما جاء موعد انعقاد المؤتمر؛ لم يذهب البابا كيرلس وأوفد نيابة عنه الراحلان الأنبا صموئيل والأنبا أثناسيوس. وأصر الإمبراطور على عدم عقد المؤتمر إلا بحضور رئيسه، وتم تأجيل عقد المؤتمر عدة أيام حتى تم إقناع البابا كيرلس بالذهاب. ووصل الأمر إلى أن أمر الرئيس جمال عبدالناصر بحضور موظفى مصلحة الجوازات للعمل يوم الجمعة.. العطلة الرسمية للدولة لإنهاء إجراءات سفر البابا كيرلس السادس والوفد المرافق له. وقد استقبل الإمبراطور الحبشى البابا كيرلس السادس فى المطار، واصطحبه فى جميع زياراته هناك، وقام بتوديعه إلى أن ركب الطائرة التى أقلته للقاهرة. وهو ما تم بمرأى ومسمع من السفير المصرى هناك، والذى قام بنقل ما حدث للقاهرة.. وقد وصل الأمر برمته إلى الرئيس عبدالناصر.

> مشروع ناصر السياسى..

ارتكازًا على كل ما سبق، قام به الرئيس جمال عبدالناصر فى إطار مشروعه السياسى من أن تكون مصر محورًا سياسيًا بداية من الدائرة العربية، ومرورًا بالدائرة الإسلامية، وصولًا إلى دائرة دول عدم الانحياز. بالإضافة إلى الدائرة المسيحية فيما بعد. وهو ما يظهر من خلال تبرعه المادى وتدعيمه المعنوى لبناء أكبر كاتدرائية فى الشرق الأوسط وإفريقيا لتكون مركزًا للمسيحية الأرثوذكسية، ومقرًا للبابا المصرى.. القطب الموازى دينيًا للمسيحية الغربية «الفاتيكان» والأقدم تاريخيًا منها. وهى الدائرة التى لم تكتمل فى عهده، وإن كانت بدأت بدعم عبدالناصر لبناء كاتدرائية كبيرة تليق بمكانة الكنيسة المصرية حيث أسهمت الدولة بنصف مليون جنيه فى بنائها.. بدفع نصف الإسهام نقدًا، ونصفه الآخر يقدم عينًا بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام. وجاء الرئيس عبدالناصر لوضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الجديدة بالعباسية فى حضور الإمبراطور الأثيوبى هيلاسلاسى والبابا كيرلس السادس. 

> علاقات إنسانية..

لا يمكن أن نهمل هنا ما قام به الرئيس عبدالناصر من مواقف وطنية، على غرار: إقالة أحد كبار المسئولين من منصبه بعدما تأكد من قيامه بالعديد من الإجراءات المتعسفة التى تسببت لمتاعب كثيرة للبابا كيرلس. كما شجع أبناءه على التبرع بمدخراتهم لبناء الكاتدرائية الجديدة. كما نذكر أيضًا أن الدولة قد أسهمت فى عهد الرئيس عبدالناصر فى 10 مايو 1967 بمبلغ عشرة آلاف جنيه لمواجهة عجز ميزانية البطريركية وسداد رواتب الموظفين بعد توقفها لعدة شهور.

وحينما أعلن الرئيس عبدالناصر تنحيته عن الحكم بعد هزيمة يونيو 1967؛ توجه البابا كيرلس على رأس وفد من المطارنة والأساقفة والكهنة إلى رئاسة الجمهورية، وأعلن تمسكه وتمسك المواطنين المسيحيين المصريين به. وعندما تراجع عبدالناصر عن قرار التنحى.. أمر البابا كيرلس السادس جميع الكنائس بضرب الأجراس احتفاء بقرار عبدالناصر. والطريف فى الأمر، أنه أثناء مرض الرئيس عبدالناصر وسفره للعلاج فى مصحة تسخالطوبو بروسيا.. كان البابا كيرلس من القلائل الذين كانوا على اتصال تليفونى دائم به للاطمئنان على صحته. وكان على رأس مستقبليه حين عودته للقاهرة. 

وحينما رحل الرئيس جمال عبدالناصر سنة 1970 عبر البابا كيرلس عن عميق حزنه قائلًا: (.. جمال لم يمت ولن يموت...). وحينما مرت الأيام، ورحل البابا كيرلس السادس سنة 1971 قالت إذاعة صوت أمريكا: (لقد توفى الصديق الوفى لعبدالناصر!)

> تديين المجال العام..

يتطلب ما سبق، عدم تجاهل بعض المواقف التى تمثل الجوانب السلبية فى علاقة ثورة يوليو بالمواطنين المسيحيين المصريين، وذلك مع ملاحظة أنها فى تقديرى مواقف غير موجهة لهم بشكل مباشر.. غير أن سياق تنفيذها ترتب عليه ظهور العديد من الحساسيات التى تأتى على النقيض فيما كنت أعتقده من قبل فى أن العلاقة بين الكنيسة والدولة فى عهد عبدالناصر هى علاقة تكامل وطنى.. لأنها فى الحقيقة فترة تأسيس لما عانينا منه بعد ذلك من زيادة المد الطائفى فى المجتمع المصرى. وهو ما يمكن أن نرصده من خلال تديين بعض جوانب الحياة فى المجتمع المصرى بشكل غير مباشر، وذلك من خلال التأميم الذى تعرض له جميع الرأسماليين المصريين بوجه عام، وغالبية رجال الأعمال المسيحيين المصريين.. الذين يعمل غالبيتهم فى القطاع الخاص. وأيضًا من خلال فكرة التعيين فى البرلمان بعد إلغاء التعددية السياسية التى كانت السبيل لوصول النخبة السياسية المسيحية المصرية للبرلمان بالانتخاب.

ويمكن رصد الأسباب المباشرة التى أدت لما سبق، في:

- تحويل الأزهر من جامع إلى جامعة لتدريس العلوم الفقهية والدينية إلى جامعة تضم أيضًا الكليات المدنية.. وهو ما ترتب عليه استبعاد الطلاب المسيحيين المصريين منها من جانب، وتراجع التطور الحقيقى للتعليم الدينى فيها من جانب آخر حسبما ذكر قبل ذلك د. أحمد الطيب «شيخ الأزهر».

- عدم تولى المواطنين المسيحيين المصريين للوزارات ذات السيادة، وتعيينهم فى وزارات عديمة الأهمية على العكس مما تم قبل ثورة يوليو 1952، حينما تولوا الوزارات السيادية ورئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء.

- وجود اتجاه غير مكتوب فى شكل قرارات بعدم تولى المواطنين المسيحيين المصريين وترقيتهم فى العديد من الوظائف الحكومية. وترسيخ فكرة أهل الثقة من الدين الواحد فى التعيين كبديل عن أهل الخبرة والتخصص.

- إعادة صياغة المناهج التعليمية بشكل تم استبعاد فيه كل ما يخص تاريخ المسيحية المصرية فى التاريخ الوطنى. بل التجاوز والازدراء ضدهم فى بعض النصوص.

- عدم وجود حل حقيقى لمشكلة بناء الكنائس وترميمها، وتفعيل الشروط العشرة لبناء الكنائس التى أصدرها العزبى باشا «وكيل وزارة الداخلية» سنة 1934.

- صياغة الهوية المصرية من خلال الحديث عن مصر الإسلامية وكأنه نوع من الاستبعاد للمسيحيين المصريين من المشاركة فى الحياة المصرية بجميع جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية.

> نقطة ومن أول السطر..

ما سبق قد تم فى سياق التوجه السياسى للدولة المصرية فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وهو الأمر الذى نتج عنه كل تلك المشكلات التى ذكرتها، والتى لم تكن فى تقديرى توجهًا طائفيًا بقدر ما هى إجراءات تم اتخاذها حينها فى سياق سياسى محدد.. تم توجيهه وتوظيفه واستغلاله فيما بعد بشكل طائفى بغيض. 

وتظل الملاحظة الأساسية فى أن اختزال العلاقة بين المواطنين المسيحيين المصريين وثورة يوليو 52 فى شكل العلاقة الطيبة بين البابا كيرلس السادس وبين الرئيس جمال عبدالناصر.. هى مجرد علاقة شخصية غير مؤسسية. هو اختزال مخل لأنه لم يترجم ببساطة إلى إجراءات ومواقف يشعر بها المواطن المسيحى المصرى العادى.>