الطريق الثالث .. استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (7) أمريكا «دولة متحركة»؟ إلى أين!؟
كان دونالد ترامب الرئيس الأمريكى السابق (والقادم، على ما يبدو)، بحاجة إلى قارئة فنجان تقرأ له الطالع، ربما كانت تمنعه عن دعم «حق حيازة السلاح»، وتوقفه عن تحفيزه لأصحاب الأسلحة من الأمريكيين ومحاولة اجتذاب أصواتهم الانتخابية فى حملته المستعرة للعودة إلى البيت الأبيض. فقد فر المرشح الجمهورى من الموت بعد أن طاردته رصاصة طائشة كادت تودى بحياته، تؤكد التحقيقات أنها انطلقت من بندقية من «طراز Ar-15» التى توصف بأنها البندقية المفضلة لترامب. بالطبع انشغل العالم بنجاة المرشح الجمهورى، ووقفته وقبضته والدماء التى لطخت وجهه، وتبارت وسائل الإعلام تحلل الحادث ودوافعه وتشرح سيرة القاتل الذى تم قتله (أو تصفيته) قبل أن يروى للعالم تفاصيل الساعات التى سبقت نحره والتى ربما تكشف النقاب عن أسرار محاولة اغتيال ترامب، وربما كانت طرف خيط يكشف للعالم بعضًا من أسرار عمليات الاغتيال الكثيرة التى تمت على الطريقة الأمريكية، والتى قد تعيدنا عبر آلة الزمن إلى 22 نوفمبر 1963 اليوم المشهود الذى قتل فيه جون كينيدى الرئيس الأمريكى الأسبق، وكيف مات قاتله (هارفى أوسولد) مخلفًا وراءه لغزًا استعصى حله حتى اليوم، بنفس الحالة التى تركنا عليها توماس ماثيو كروكس مطلق النار على ترامب.
هيكل والمؤامرة
«وليس أشد إثارة للملل فى الفكر العربى المعاصر من هؤلاء الذين ينسبون كل وقائع التاريخ إلى تدبير المؤامرة -غير أولئك الذين يتوهمون أن الإمبراطورية مبرة خيرية وأن مطالب الهيمنة دعوة هداية ورشد تشع من البيت الأبيض الأمريكى أو من وزارة الدفاع (البنتاجون)- أو من مقاهى الشركات العملاقة أو من مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية ابتداء من «مجلس العلاقات الخارجية» فى نيويورك وحتى مؤسسه «راند» فى كاليفورنيا».
كان هذا ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل فى فصل بعنوان «صناعة القرار الأمريكى الآن»، والذى يمثل الفصل الأهم فى كتابه الشهير «الإمبراطورية الأمريكية.. والإغارة على العراق»، وقد استهل الأستاذ فصله، بعنوان فرعى: «إمبراطورية قطاع خاص»، أوضح فيه قائلًا: «وداعى الملل أن أصحاب نظرية التاريخ المتآمر، ومعهم أنصار نظرية الهيمنة العذراء -كلاهما يثير الغبار والدخان من حول واقع الحال، ومجمله أن العلاقات الدولية صراعات قوى، ومصالح تمارس فعلها بالنار، وتندفع إلى سباق الحياة بأقصى سرعة يسمح بها العقل والعلم، وهى تجرب فرض إرادتها بكل الوسائل- علنًا وسرًا- إقناعًا وقسرًا- حربًا مكشوفة أو تربصًا فى الظلام. وهنا فإن التاريخ يصعب -جزافًا- اعتباره مؤامرة مستمرة لكنه فى اللحظة نفسها يصعب إطلاقًا اعتباره فردوسًا للأطهار».
وقفة مع مفكر روسى
واتفق إلى حد كبير مع وجهة نظر المفكر الروسى ألكسندر دوغين الذى يصفه إعلاميون غربيون بأنه «عقل بوتين» أو «راسبوتين بوتين»، فى حديثه عن الانتخابات الأمريكية والتى «تحظى بأهمية غير مسبوقة، إذ إن مصير البشرية جمعاء يعتمد على نتائجها، وليس الولايات المتحدة أو الغرب فحسب، حيث إن العالم يتأرجح على شفا حرب نووية، حرب عالمية ثالثة كاملة وشاملة»، وأعجبتنى قراءته التحليلية لما وراء المرشحين المحتملين لخوض المنافسة فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو لم يخف تحيزه الواضح لترامب، حيث يصفه قائلا: «ترامب، على عكس بايدن، شخصية لامعة ومبتكِرة ومندفعة وقوية الإرادة. على المستوى الفردى، على الرغم من عمره، فهو فى حالة جيدة، عاطفى، نشيط وملىء بالطاقة. علاوة على ذلك، إذا كان بايدن رجل فريق، وهو فى الأساس أحد رعايا الدوائر العالمية، فإن ترامب شخص وحيد، يجسد الحلم الأمريكى بنجاحه الشخصى. إنه نرجسى وأنانى، لكنه سياسى ماهر وناجح للغاية».
إمبراطورية المصالح الشخصية
ونكمل مع الأستاذ هيكل وكأنه يشاركنا اللحظة الأمريكية الراهنة، حيث يقول: «والواقع أن تاريخ الإمبراطوريات يكشف أشياء، كما أن تجربة هذه الإمبراطورية الأمريكية تضيف إلى الكشف القديم أشياء أكثر، لأن هذه الأخيرة ظاهرة مستجدة، كما أن صناعها طراز مختلف عما سبقوهم على نفس الطريق، فلم يحدث من قبل أن اختلطت المشروعات الإمبراطورية الكبرى بالمصالح الشخصية المباشرة كما يحدث فى حالة المشروع الإمبراطورى الأمريكى اليوم، وأول الأسباب أن التجربة الإمبراطورية الأمريكية فى الجانب الرئيسى منها مشروع مالى (شبه خاص) وهنا اختلافه عما سبقه. ومع التسليم بالعلاقة العضوية بين الإمبراطورية والثروة فإن المشروع الأمريكى غير ترتيب العلاقة وبدل تركيبتها وجاء بأحوال غير مسبوقة فى نشأة الإمبراطوريات وقيامها».
هل يصبح ترامب رئيسا؟
وعودة للمفكر الروسى الذى يجيب عن السؤال فى مقاله الذى نشرته مجلة «المجلة» السعودية مطلع هذا الشهر، وقبل أيام من محاولة اغتيال ترامب، حيث يقول: «سيحاول أنصار العولمة الذين يقفون خلف بايدن الضعيف إزاحة ترامب القوى من الانتخابات ومنعه من أن يصبح رئيسًا بأى ثمن. هنا يمكن استخدام جميع الأساليب- القتل والسجن وتنظيم أعمال الشغب والاحتجاجات- وصولا إلى الانقلاب أو الحرب الأهلية. أو فى نهاية ولايته سيبدأ بايدن الحرب العالمية الثالثة. وهذا أيضًا محتمل جدًا. وبما أن أنصار العولمة يحظون بدعم قوى من الدولة العميقة، فإن أيًا من هذه السيناريوهات يمكن أن يحدث. ومع ذلك، إذا افترضنا أن ترامب الشعبى والشعبوى سيفوز ويصبح رئيسًا، فإن هذا بالطبع سيؤثر بشكل خطير على السياسة العالمية بأكملها».
دولة متحركة
وأختم بما نقله الأستاذ من كتاب آخر حمل نفس عنوان كتابه «الإمبراطورية الأمريكية» لمؤلفه ستانلى كارنوف، الذى يقول: «إن الولايات المتحدة الأمريكية نشأت ونمت -بطبائع الجغرافيا والتاريخ- دولة متحركة لا تطيق الوقوف مكانها، وتعتقد أن الوقوف لا يكون إلا استسلامًا لحصار أو تمهيدًا لتراجع، أى أن غرائزها ودوافعها تحفزها دائمًا لأن تتقدم وتتقدم. تنتشر وتنتشر».
ولعل تعبير الدولة المتحركة هو الأكثر توفيقًا للتعبير عن الدولة الأمريكية فى كل أطوارها، لهذا فهى تمنح مفتاح حكمها لساكن البيت الأبيض بشروط لا تتغير، يلخصها قدرته فى الحفاظ على هذه الديناميكية والحيوية على جميع مسارات العمل، وظنى أن ترامب يقترب بقوة ليقطف ثمرة الحكم، منحته محاولة الاغتيال بريقًا خاصًا سيعمى العيون عن كل سلبياته، فى المقابل ستقف الحالة الصحية لبايدن حائلاً يمنعه من تكرار اختطاف مقعد الرئاسة من غريمه.
وتسمر الحركة الأمريكية.. ويستمر العالم فى الجرى خلفها أملاً فى اللحاق بها حتى انقطعت أنفاسه.