الإثنين 21 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 عندما التقيت الحاج مدبولى

عندما التقيت الحاج مدبولى

قبل نحو اثنين وثلاثين عاماً قررت فى أحد صباحات صيف 1992م وأثناء ما كان زميلي غارقا فى أحلامه الهانئة أن أزور مكتبة مدبولى الشهيرة، كنت قد سمعت عنها الكثير وعن مالكها الرجل البسيط الذى كانت له فى حينه صولات وجولات من التحدى من أجل حرية الثقافة والإبداع، وبالفعل أخذت التاكسى وطلبت منه أن يأخذنى للمكتبة الواقعة فى ميدان طلعت حرب، وحينما توقف التاكسى فوجئت بالسائق يشير بموقع المكتبة الذي لم يتجاوز من الخارج «دكان» بسيطا تملأ واجهته أكوام من الروايات المترجمة وكتب الدين والسياسة والمراجع الفلسفية.



تجولت كباقى المرتادين أبحث عن كتب لم أكن لأجدها فى بلادى السعودية فى ذلك الزمان، خصوصا أعمال أدبية وفلسفية مثل الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران وبعض مؤلفات الدكتور عبدالرحمن بدوى وكتاب مرداد لميخائيل نعيمة ونسخ مترجمة للعربية للكوميديا الإلهية لدانتى.

كان يجلس خلف طاولة خشبية رجل مسن عرفت من المحيطين أنه الحاج مدبولى فاتجهت نحوه للسلام وللسؤال عن ما إذا كان بإمكانه أن يدلنى على أحد كتب عبدالرحمن بدوى، فنظر إلى متفحصاً ورد على سؤالى بسؤال قائلاً: هل تريد النسخة الشعبية أم الطبعة الفخمة من الكتاب؟ في حينه لم أكن أعلم الفرق بين النسختين خصوصا أن فى المملكة لم نعتد على أن تكون الثقافة مصممة وفق الدخل والإمكانيات المادية، فأجبته بأن لا فرق بالنسبة لي بينهما، فأخذنى باهتمام ملحوظ لإحدى زوايا المكتبة وناولنى نسخة من الكتاب فأردفت سائلا بعد شكره هل لك أن تدلنى أيضاً على «كتاب مرداد» بنسخته الشعبية؟ نظر إلى وكأنه يريد أن يتأكد إذا ما كنت أستحق الاطلاع على ما كان ينوى إطلاعى عليه فقال سأعطيك فرصة الاطلاع على «قلب المكتبة» قالها الرجل الكهل مبتسماً، والتفت نحو أحد معاونيه ووجهه بأن يأخذنى لمكان ما، شكرت الحاج ومضيت مع ذلك المعاون للمدخل الرئيسى للعمارة التى تضم المكتبة، ودخلنا فى مكان بدا لى شقة فى الدور الأرضى تم تحويلها لمستودع كبير يضم عشرات وربما مئات الآلاف من الكتب المرتبة على أرفف حديدية تلامس عنان سماء المكان، تركني المعاون فى تلك المكتبة العملاقة بعد أن أضاء الأنوار وأدار مكيفات التبريد العديدة، فقضيت في ذاك المكان الفسيح قرابة الساعتين وأكثر خرجت منه محملاً بكل ما لذ وطاب من الكتب المنوعة التي ما زالت تروي العقل وتزين الأمكنة وتضيء جوانب من حياتي بنور العلم والثقافة والمعرفة.

خرجت من ذلك المكان شاباً أصبح يرى فى الثقافة ما هو أبعد من مجرد شهادة أو لقب علمى أو كلمات منمقة يستعرض بها المثقف من هنا ومن هناك، خرجت إنسانا يرى في الثقافة جزءًا من حياة العامة وحقًا لعلية القوم منهم والمهمشين وما بينهما، بت أرى التعلم والتفكير عنصرا أساسيا للحياة الكريمة والسعيدة والمنتجة بصرف النظر عن طبقة وجنس واثنية وسن، فمحمد مدبولى الشهير بالحاج مدبولى مات قبل ستة عشر عاماً تاركاً لنا مكانا وإرثاً وذكرى ربما تعيش لمئات السنين كما عاش من قبل لعشرات السنين مركزاً ثقافيا وفكرياً للجميع بصرف النظر عن اختلاف أصولهم و قناعاتهم و أعمارهم، وهو عمل سيخلد اسم هذا الرجل الذي بدأ بائعا للصحف والكتب على العربات المتنقلة في شوارع قاهرة المعز ولينتهي به العمر اسماً سيتذكره التاريخ عنواناً مرادفاً للثقافة والكتاب.