الخميس 17 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

3 أيام من المداولات والنقاشات المحورية الناتــو محاصر بين التحديات الحالية وغموض المستقبل

73 ساعة من المداولات بين 32 حليفًا كانت كفيلة لتكشف عن استراتيجية حلف شمال الأطلسى (ناتو)، سواء المعلنة، أو ما وراء الكواليس.. فاجتمع زعماء حلف (الناتو) فى «واشنطن» من التاسع إلى الحادى عشر من يوليو الجارى للتعامل مع أحد أهم الأسئلة التى تواجهه، وهى كيف سيظل الحلف - الذى رسخ مكانته بين أقوى التحالفات العسكرية فى التاريخ- قادرًا على البقاء فى المستقبل؟؛ وذلك إلى جانب العديد من الأسئلة الأخرى، بدءًا من مسار «أوكرانيا»، وحتى الإنفاق الدفاعى الجماعى للحلف، وتنسيقه، ومواجهة التحديات المختلفة على الساحة الدولية.



 ملخص بيان القمة

شمل البيان عددًا من النقاط المهمة، من بينها: تأكيد دول حلف (الناتو) -فى البيان الختامى للقمة- التزامها بإنفاق دفاعى عند مستوى لا يقل عن 2 % من الناتج المحلى الإجمالى.

كما شدد الحلف على دعمه الكامل لما وصفه بـ(مسار لا رجعة فيه) لاندماج «أوكرانيا» فى المجتمع الأوروأطلسى وعضوية الحلف؛ مؤكدًا أن القمة قررت إنشاء بعثة للمساعدة الأمنية والتدريب لأوكرانيا تابعة لحلف (الناتو)، لتنسيق الإمدادات العسكرية والتدريب للقوات الأوكرانية.

وتعهد قادة الحلف منح «أوكرانيا» مساعدات عسكرية بقيمة 40 مليار يورو على الأقل خلال العام المقبل، لمساعدتها فى القتال ضد «روسيا»؛ داعين -فى الوقت ذاته- إلى عدم تقديم أى مساعدة لموسكو. 

وفى الوقت الذى حظيت الأزمة الأوكرانية على جزء كبير من البيان، إلا أنه سلط الضوء -أيضًا- على التهديدات التى تشكلها «الصين، وروسيا، وإيران وكوريا الشمالية»، فى حين أدرج كل من «أستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، ونيوزيلندا» فى خططه للاستجابة؛ فضلًا عن تعزيز الشراكات الدولية، والدفاع السيبرانى، ومكافحة الإرهاب، والاستجابة للتحديات فى الجناح الجنوبى للحلف.

كما أعلن قادة دول الحلف أن العلاقات الوثيقة بين «الصين» و«روسيا» تسبب لهم قلقًا عميقًا؛ متهمين «بكين» بلعب دور رئيسى فى مساعدة «موسكو» فى هجومها على الأراضى الأوكرانية.

 ما وراء البيان

رغم الاتفاق الواضح على إدانة «روسيا»، وضرورة تعزيز الدفاع لدول الحلف، إلا أن خلف الكواليس كانت هناك وجوه أخرى للحقيقة، فى مقدمتها:

 (الأمن الأوروبى أولًا):

رغم أنها حقيقية ليست عيبًا فى النظرية الواقعية للعلاقات بين الدول، إلا أنها تأتى منافية لفكرة تعزيز الشراكات والتعاون الليبرالى الذى تتبناه دول من «الاتحاد الأوروبى» والتى يعد بعضها عضوًا فى حلف (الناتو).

فطبيعة الشراكات المختارة للحلف كانت انتقائية، تهدف إلى خدمة مصالح (الناتو) فقط، والدليل هو غياب ذكر «أمريكا اللاتينية» عن النقطة التى كانت تشير لخطة عمل الحلف للتعاون مع دول الجنوب؛ فى حين أصر أعضاء (الناتو) على تعزيز التعاون مع دول جنوبية أخرى، وهى «أستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية» المعادين أو غير المؤيدين للمعسكر الشرقى (الذى يضم الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا).

 (فجوات فى الاتفاقيات)

فى الوقت الذى اتفق دول الحلف على ضرورة بذل المزيد من الجهود، لتفعيل الالتزامات التى تم التعهد بها من قبل فى «مدريد»، و«فيلنيوس» (أى إنفاق دول الحلف أكثر من 2٪ من ناتجها المحلى الإجمالى على الدفاع الوطني)؛ إلا أن الحلفاء أقروا بوجود فجوات لا تزال قائمة فى مجالات رئيسية، بما فى ذلك: مخزونات الذخائر، والدفاع الجوى والصاروخى المتكامل، والقيادة والسيطرة، وغيرها.

 

 

 

 (الانتخابات الأمريكية تعكر صفو القمة)

أكد عدد من المحللين السياسيين ممن حضروا فعاليات القمة، وجود مزاج قاتم خلف كواليس الاجتماعات، فيما يتعلق بالانتخابات الأمريكية؛ إذ يحوم شبح القلق بين بعض أعضاء الحلف من عدم تحقيق الرئيس الأمريكى الحالى «جو بايدن» الفوز فى نوفمبر المقبل؛ لأن خسارته «بايدن» تعنى –فورًا- عودة الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب»، مما يزيد من توتر الأوروبيين القلقين –بالفعل- من تجربتهم السابقة معه.

وفى الوقت ذاته، طغت الأسئلة حول صحة «بايدن» العقلية خلال القمة، خاصة بعد خلطه بين أسماء زعماء العالم، وتحديدًا عندما استبدل اسم الرئيس الأوكرانى «فولودومير زيلينسكى»، باسم الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين»، حيث قال فى المؤتمر»أقدم لكم رئيس أوكرانيا «بوتين»، فى زلة لسان جديدة.

 ما كشفه البيان

كشف بيان القمة عن العديد من الخطط والاستراتيجيات للحلف، منها ما كان جديدًا، وآخر ليس مفاجئًا على الإطلاق. ولعل أبرز ما كشفه البيان، هو:

 (احتواء روسيا بأى ثمن)

يبدو أن إرث «الاتحاد السوفيتى» القديم لا يزال يؤرق المجتمع الغربى، وتحديدًا للمنافسة التاريخية التقليدية «الولايات المتحدة». 

فبعد أكثر من عامين من عدم الاتفاق بين أعضاء الحلف بشأن انضمام «أوكرانيا»، يبدو أن أعضاء (الناتو) وجدوا – بعد فشل محاولاتهم المختلفة طوال الشهور الماضية عبر العقوبات، وغيرها فى احتواء «موسكو»- أن السبيل الوحيد لتوفير الأمن الطويل الأجل، هو انضمام «أوكرانيا»، لأنه يسمح للحلف أن يدخل حربًا إن تعرض أحد حلفائه لذلك، وهو ما يفسر الآليات طويلة الأجل التى تهدف لتقديم الدعم العسكرى لأوكرانيا فى بيان القمة. 

ومع ذلك، أكد البيان فى الوقت ذاته، أن الحلف لا يرغب فى التورط مباشرة مع «روسيا»، نظرًا لعدم جاهزية (الناتو)، أو «أوكرانيا» للإقدام على هذه الخطوة سريعًا.

 (شهادة ميلاد نظام دولى جديد)

كان بيان القمة بمثابة وثيقة رسمية لما تداوله المسئولون الغربيون علنًا أو على استحياء بين السطور لتفاقم حجم الصدع بين المعسكرين (الشرقي)، و(الغربي)، الذى تتبلور ملامحه مع مرور الأيام، وزيادة الخلافات على المسرح الدولى.

ففى الوقت الذى رصد بيان الحلف شكل التحديات التى تمثلها «الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران»، إلا أنه سلط الضوء –تحديدًا- على الشراكة الاستراتيجية المتعمقة بين «موسكو، وبكين»، وهو ما يؤكد –فى المقابل- وحدة التحالف ووعيه بالمشهد الجيوسياسى المتطور. 

وعليه، وضع الحلف أساسًا لصياغة الاستراتيجيات اللازمة لمعالجة هذه العلاقة الناشئة ومواجهتها، حيث أشار البيان إلى التزام جماعى بين الدول الأعضاء فى (الناتو) بالمشاركة الفعالة فى تحديد وتنفيذ التدابير الرامية إلى التخفيف من تأثير هذه الشراكة.

فى المقابل، نددت الدول المناهضة -لما يوصف- للهيمنة الغربية (والمقصود الصين، وروسيا وكوريا الشمالية)، بالنقاط التى ذكر البيان فيها اسم بلادهم بصورة سلبية، من جهة نظرهم.

فانتقدت «الصين» تشويه (الناتو) لسمعتها، وتأجيج المواجهة فى منطقة «آسيا»، والمحيط الهادئ، ردًا على تصريحات الأمين العام للناتو «ينس ستولتنبرج»، التى قال فيها، إن: «التكتل العسكرى يجب أن يعمل مع حلفائه لمقاومة دول معينة فى المنطقة، بما فى ذلك: «الصين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشمالية».

من جانبه، قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسى «ديمترى مدفيديف»، إنه: «أصبح الاستنتاج واضحًا.. يتعين علينا –الآن- أن نفعل كل ما بوسعنا حتى تنتهى فكرة انضمام «أوكرانيا» نحو حلف (الناتو)، إما بزوال «أوكرانيا» نفسها، أو باختفاء الحلف؛ والأفضل بكليهما».

كما أعلنت «الصين» إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع «روسيا» على طول ساحلها الجنوبى -عقب قمة حلف (الناتو)- تحمل اسم «البحر المشترك 2024»، بهدف تعميق شراكة (التنسيق الاستراتيجية الشاملة بين «الصين، وروسيا» فى العصر الجديد).

بدورها، نددت «كوريا الشمالية» بأشد العبارات البيان المشترك لقمة (الناتو)، ووصفته بأنه (وثيقة غير قانونية).. حيث قالت الخارجية الكورية الشمالية إن البيان ينتهك الحقوق المشروعة للدول المستقلة ذات السيادة، ويمثل برنامجًا عدوانيًا يحرض على حرب باردة جديدة، ومواجهة عسكرية على نطاق عالمى.

باختصار، كان بيان حلف (الناتو) مجرد حلقة أخرى لسلسلة التوترات التى تتفاقم بين معسكر (الشرق)، و(الغرب) وحلفائه الدوليين، التى تشير لتغير شكل النظام الدولى بشكل صريح.

  تحديات أخرى تواجه (الناتو) مستقبلًا

بعيدًا عن قائمة التحديات التى رصدها بيان قمة (الناتو)، وصرح بها أعضاء الحلف، فهناك بعض المشاكل والأزمات التى تواجهه فى المستقبل القريب، ومنها:

 (رفض بعض الدول الجنوبية الشراكة مع الحلف)

أشار أعضاء حلف شمال الأطلسى مرارًا لضرورة تعزيز الشراكات مع دول بعيدة عن إقليمهم -وليس ضم أعضاء جدد- رغبة فى حشد أكبر قدر من الشركاء لضمان الهيمنة، ومنها رغبة حلف (الناتو) لتعزيز الشراكة جنوبًا نحو «أفريقيا»، وذلك لمواجهة النفوذ المتزايد للصين وروسيا فى المنطقة؛ إلا أن المحللين السياسيين أكدوا صعوبة تلك الخطوة التى تحتاج لدراسة معمقة، فى ظل معارضة الشعوب الأفريقية لمثل هذا التوسع.

ويعود سبب الرفض الأفريقى –حسب المحللين- إلى صراع الدول الكبرى للسيطرة على القارة، وسعيها إلى تحقيق النصر على خصومها فى الحرب الباردة، ما دفع بعض الدول الأفريقية إلى اختيار أحد الجانبين؛ موضحين أن الشباب الأفارقة يرون حلف (الناتو) امتدادًا للأنظمة الاستعمارية القديمة، وما بعد الاستعمارية التى استنزفت مواردهم، وأشعلت الحروب فى منطقتهم. 

وعليه، توقع المحللون أن توسع (الناتو) قد يفشل بنسبة كبيرة فى «أفريقيا» لعدة أسباب؛ أولها: المنافسة بين القوى العظمى تضيف تحديًا آخر إلى التوسع المحتمل لحلف (الناتو)، إذ أبدت مجموعة كبيرة من اللاعبين، بما فى ذلك: «الصين، والهند، وروسيا»، وغيرها اهتمامًا مستدامًا بأفريقيا، وعرضوا على الأفارقة خيارات وبدائل وفرصًا؛ ثانيها: عدم وجود رؤية للحلف مع مشكلة انعدام الثقة واحتياجات أفريقيا المتنوعة ضده.

 (أقصى الشمال تحدى أصعب)

القطب الشمالى، منطقة متجمدة كانت شبه منسية لعقود، صارت تبرز كساحة رئيسية للمنافسة الاستراتيجية، باعتبارها جسرًا عبر القطبين يربط بين مراكز التجارة فى المحيطين الأطلسى والهادئ، ناهيك عما تحتويه من موارد طبيعية هائلة، فلم تنس الدول الكبرى، خاصة القريبة من القطب الشمالى التقرير الذين أصدرته هيئة المسح الجيولوجى الأمريكية فى عام 2008، والذى قدر وجود نحو 90 مليار برميل من النفط، و1669 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعى فى المنطقة القطبية الشمالية، إلى جانب احتوائها على معادن تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، مثل: الفضة، والنحاس، والذهب، والنيكل، وخام الحديد، والعناصر الأرضية النادرة، التى بدأت فى الظهور تحديدًا مع ارتفاع درجات حرارة الأرض والتغير المناخى، ما أدى لإعادة تشكيل البيئة الأمنية فى الشمال. 

وعليه، يجد  حلف (الناتو) أنه أمام مجموعة واسعة من التهديدات، بدءًا من الأنشطة الهجينة التى تهدد البنية الأساسية الحيوية، إلى القتال على مستوى عال.

يأتى ذلك، بالإضافة إلى ارتفاع درجة حرارة المياه فى الشمال، الذى من شأنه أن يزيد من صعوبة العثور على الغواصات الروسية المتطورة مع تطور طبيعة المياه.

كما أوضح عدد من المحللين السياسيين أن تحدى برودة الطقس فى الشمال يتطلب من بعض قوات الحلف غير المعتادة على هذه الطبيعة القاسية من البرودة الشديدة، والظلام، والافتقار إلى البنية الأساسية، إلى خبرة واسعة، من أجل البقاء، والردع، والدفاع؛ مؤكدين أن منطقة القطب الشمالى ليس لعبة سهلة، بل تتطلب أنظمة وتدريبات وتكتيكات مصممة خصيصًا.

فى النهاية.. كان اجتماع حلف شمال الأطلسى (ناتو) فى واشنطن، فى الذكرى الـ75 لتأسيسه، نقطة فارقة جديدة فى حياة الحلف، إذ يواجه تحديات إقليمية ودولية غير مسبوقة، ما تطلب من أعضائه تغيير خطتهم واستراتيجيتهم علنًا وسرًا.. وفى الوقت الذى يسيطر الغموض على مستقبل الحلف العسكرى وشركائه، جراء صعود لاعبين منافسين جدد بوتيرة سريعة على المسرح الدولى، صار تغير شكل النظام الدولى أكثر وضوحًا.