الأحد 3 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

بعد اليمين الأوروبى.. بريطانيا وفرنسا تتجهان لليسار «زلزال سياسى» يضرب القارة العجوز

لم تكن الانتخابات البرلمانية فى كل من فرنسا وبريطانيا سوى «مُقامرة» فاشلة زج بها ريشى سوناك فى عاصمة الضباب بسبب عدم مقدرته على تجاوز الخلافات السياسية داخل حزبه المنقسم، أو «ضعفه فى إصلاح ما «أفسدته 14 سنة من حكم حزب المحافظين»، وانتهت «مُقامرة» سوناك بخروجه من مقر داونينج ستريت وتسليم القيادة لحزب العمال (يسار وسطى) للمرة الأولى منذ 1924.



على الجانب الآخر جاء اليسار الفرنسى ليطيح بتيار اليمن المتطرف بعد «مُقامرة ماكرونية» أخرى دعت لضرورة حل الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسى) أيضًا بعد صدمة اكتساح حزب التجمع الوطنى اليمينى انتخابات البرلمان الأوروبى فى فرنسا، مُحرزًا 31.4 % من الأصوات، ومتفوقًا على حزب النهضة الرئاسى الذى حل ثانيًا بنسبة 14.60 % من الأصوات.. صدمة البرلمان الأوروبى مع ارتفاع أصوات اليمين المتطرف داخله جعلت ماكرون يراهن على الإطاحة بهذا التيار قبل دخوله إلى حدود الجمعية الوطنية.. وعلى الرغم من فشل حزب ماكرون فى الانتخابات التشريعية ليحصل على أغلبية البرلمان وتشكيل الحكومة؛ فإن القادم أيضًا ليس سهلًا؛ فالتعامل مع تيار اليسار الفرنسى يضع ماكرون فى مأزق لا يعرف عقباه.. وبين أقصى اليمين وأقصى اليسار دخلت أوروبا فى مأزق حقيقى؛ فشعوب القارة العجوز انتفضت الآن لتعلن رفضها أو يأسها من التيارات الوسطية وسياساتها وعلى رأسها العولمة التى أصبحت عبئًا على شعوب الغرب بأكمله.

 كيف أخفق اليمين الفرنسى؟

فى مفاجأة غير متوقعة أسفرت عنها الانتخابات الفرنسية بعد أسبوع من الشحن والاستقطاب بين القوى السياسية المختلفة. أقصى اليمين، الذى كان قبل أيام من الانتخابات البرلمانية، يفكر ويضع خططا فى كيفية ضمان الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة وتمرير برنامجه القائم على ما يسمى «الأفضلية الوطنية» التى تعطى الفرنسيين حصرًا حقوق المساعدات الاجتماعية والعمل والسكن، كذلك تستثنى المهاجرين وتميز ضدهم فى كثير من القضايا.. 

وفى لحظة واحدة يجد اليمين الفرنسى نفسه دون سابق إنذار خارج حسابات الحكومة المقبلة بعد أن حل ثالثا خلف كل من «الجبهة الشعبية الجديدة» المكونة من أحزاب اليسار، وتحالف «جميعًا من أجل الجمهورية»، ممثل يمين الوسط الذى يقوده الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون.

أمّا اليسار، الداعم لحقوق الأقليات والمناصر أيضًا للقضية الفلسطينية؛ فأصبح الآن القوة السياسية الأولى فى البلاد، بعد أن كانت فرنسا تسبح فى الأفكار العنصرية والاقصائية منذ الانتخابات الأوروبية الأخيرة.

 البرلمان الأوروبى الضربة الأولى

لكى نفهم ما حدث يجب أن نعود إلى يومى الثامن والتاسع من يونيو الماضى؛ حيث صوّت الفرنسيون لانتخاب ممثليهم فى البرلمان الأوروبى، وقد تمكن حزب التجمع الوطنى (أقصى اليمين) بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا، من اكتساح نتائج الانتخابات بعد حصوله على 31.37 % من الأصوات و30 مقعدًا برلمانيًا، وهو ضعف ما حصل عليه أقرب منافسيه من ممثلى حزب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، الذين حصدوا 13 مقعدًا فقط، وهو عدد المقاعد نفسه الذى حصل عليه الحزب الاشتراكى، فى حين لم ينل حزب فرنسا الأبية إلا 9 مقاعد.

بعد نتائج البرلمان الأوروبى، دعا رئيس حزب التجمع الوطنى جوردان بارديلا الرئيس ماكرون إلى احترام «العرف السياسى» وإعلان انتخابات تشريعية مبكرة بسبب عدم الاتساق بين الأغلبيتين المتنافرتين فى البرلمان الأوروبى والبرلمان الفرنسى، الذى كانت الأغلبية فيه للفريق الرئاسى.

رغم أن ماكرون لم يكن مجبرًا على ذلك وفق الدستور الفرنسى؛ فإنه استجاب للدعوة مُعلنًا عن انتخابات تشريعية مبكرة جرت فى 30 يونيو الماضى و7 يوليو الحالى، مما خلق جوًا من الارتباك فى الوسط السياسى بسبب «توحش» أقصى اليمين، الذى كان أقرب من أى وقت مضى لحكم فرنسا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

فى 30 يونيو أقيمت الجولة الأولى التى جاءت نتائجها مؤكدةً لما أفرزته الانتخابات الأوروبية؛ حيث حل أقصى اليمين فى المركز الأول بنسبة 19.01 % بعد جمعه أكثر من 9 ملايين و377 ألف صوت، وهى سابقة بكل ما تحمله كلمة سابقة من معانٍ. حينها بدت فرنسا كأنها تسير نحو الخطوة التى كانت تتوجس منها كثيرًا، وهى إعطاء مفاتيح قصر «ماتينيون»؛ حيث تقيم الحكومة الفرنسية؛ لحزب عائلة لوبان.

لكن كل أحلام تيار اليمين تبخرت خلال أسبوع واحد، وتلقى حلمه بالسُّلطة ضربة قاسية غير متوقعة. وبقى السؤال الأهم: كيف سقط أقصى اليمين فجأة فى لحظة تاريخية كان فيها على أعتاب نجاح غير مسبوق؟ وما الذى يعنيه ذلك تحديدًا؟

 الإعلام نجح فى إسقاط اليمين الفرنسى

لعب الإعلام دورًا محوريًا فى إسقاط تيار أقصى اليمين الفرنسى، فمنذ الإعلان عن الانتخابات البرلمانية، حاول تيار أقصى اليمين اللعب بسلاح القنوات التليفزيونية ومحطات الراديو لجذب أكبر عدد من الناخبين والإعلان عن أجندتهم المتشددة..

لكن الإعلام كان سلاحًا ذا حدّين، وكان السلاح القاتل لتيارات اليمين الفرنسية.

فى فرنسا  ليس هناك مقدم إذاعى أشهَر من سيريل حنونة، صاحب البرنامج الكثيف المتابعة «لا تلمس تلفازى» على قناة «سى 8»، حنونة ذو الأصول اليهودية التونسية الذى كان يلعب دورًا إعلاميًا للطبقة الشعبية فى الماضى؛ أضحى الإعلامى المفضل لأقصى اليمين؛ حيث عمل على تبييض وجْه عدد من أكثر قادته تطرفًا ممن كانوا دائمى الحضور فى برنامجه، مثل إيريك زمور وجون مسيحة وماريون ماريشال لوبان، فضلاً عن نشطاء يمينيين «شديدى التطرف» مثل جوليان أودول صاحب واقعة التهجم على سيدة محجبة فى أكتوبر 2019.

بجانب قناة «سى 8»، لعبت قناة «سى نيوز» دورًا محوريًا فى نشر الأفكار العنصرية وفق ما يصفه عدد من المراقبين للشأن الفرنسى، كما لعبت القناة دورًا رئيسيًا فى الحشد ضد اليسار بسبب دعمه فلسطين وغزة باعتبار ذلك «معاداة للسامية». 

لكن رغم كل هذا الحشد اليمينى؛ وجد أقصى اليمين نفسه أمام فضائح إعلامية كبيرة لدرجة جعلت مجلة «ماريان» - إحدى الأذرع الإعلامية لأقصى اليمين- تُعَنْون إحدى مقالاتها بـ«قبل الدور الثانى من الانتخابات.. فشل المرشحون داخل التجمع الوطنى»، فى إشارة إلى الارتباك الإعلامى والسياسى الواضح فى صفوف اليمين.

 «النعاج الجرباء»

ببساطة؛ أظهر العديد من البرلمانيين من أقصى اليمين «ضحالة فكرية ومعرفية غريبة» كما وصفها ناشطون فرنسيون على منصات التواصل الاجتماعى، لدرجة جعلت فيديوهاتهم تنتشر كالنار فى الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعى؛ حيث لم يتمكن العديد من المرشحين عن التجمع الوطنى من الرد ليس على أسئلة تخص الإشكالات الرئيسية التى تعيشها فرنسا؛ بل عجزوا حتى عن إظهار استيعابهم لبرنامج الحزب الانتخابى، وعلى سبيل المثال لا الحصر تصريحات مرشحة الحزب فى ديجون السيدة سيلين هامبلو كورنى، التى أجابت إجابة «غاية فى الغرابة» عن سؤال اقتصادى يخص مصادر ميزانية البرنامج الانتخابى الذى يريد حزبها تطبيقه؛ حيث قالت باستسهال «يجب إيقاف الهجرة حتى نتمكن من جمع هذه الأموال»، دون شرح علاقة الهجرة بتمويل صندوق التقاعد الفرنسى مثلاً.

ورغم أن رئيس الحزب جوردان بارديلا برّر هذه التصرفات فى تصريح متلفز بأن الأمر لا يعدو كونه وجودًا لبعض «النعاج الجرباء» فى القطيع؛ فإنها (التصريحات) فى الحقيقة تعكس جوهر رسالة الحزب وتتسق تمامًا مع برنامجه الذى لا ينكر «التفوق الفرنسى» فقط، ويضع ضمن أولوياته منع الأجانب من الحصول على المساعدات والسكن الاجتماعى؛ بل منع مزدوجى الجنسية من الأصول العربية والإفريقية من العمل فى بعض القطاعات، فى حين يُستثنَى ذوو الأصول الأوروبية من هذا التضييق القائم على «النقاء العنصرى».