الطريق الثالث.. استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (2) كل رئيس أمريكى يسعى ليثبت (رجولته) فى «الشرق الأوسط».. وبايدن عاجز!
لن نستطيع أن نعزل ما يجرى فى غزة عما يحدث فى العالم من تغيرات تجرى فى النظام العالمى، أبرز ملامحه تراجع الدور الامبراطورى للدولة الأمريكية التى تبلور وجودها واحتشدت قدراتها خلال سنوات الحرب الباردة، وتم تدشينها منفردة بالعالم ومهيمنة عليه بعد تفكك الاتحاد السوفيتى مطلع تسعينيات القرن الماضى، وسطع نجمها منفردة بالمشهد الدولى باستعراض قوتها العسكرية فيما سمى بـ«عاصفة الصحراء» أو حرب الخليج الأولى عام 1991، ثم تبلورت سيادتها بالثورة التكنولوجية فى عصر المعلومات التى كانت ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية هى الأكثر تفوقا فى سباقه.
كما لن نستطيع أن نغفل رغبة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فى إطالة أمد الحرب فى غزة، لأنها تؤثر بشكل واضح على مسار الانتخابات الأمريكية التى تجرى فى نوفمبر القادم، بين رئيس حالى ورئيس سابق، يكفى وجودهما على رأس السباق لتجسيد معنى شيخوخة النخبة السياسية الأمريكية الحالية، والتى لم تنجح فى تجديد شبابها وطرح نماذج من أجيال تالية أكثر شبابا وحضورا وإدراكًا لمتطلبات العصر.
حال النظام العالمى
يرى المفكّر الأمريكيّ جورج مودلسكيّ أن مدّة حياة أى «نظام عالميّ» هى تقريبًا 100 سنة، مقسّمة على 4 مراحل، لكلّ منها 25 سنة، المرحلة الأولى هى مرحلة الحرب الكبرى، الثانية هى مرحلة صعود المهيمن، الثالثة هى مرحلة فقدان المهيمن الشرعية والمصداقيّة فى عيون اللاعبين الدوليين. أما المرحلة الأخيرة فهى مرحلة فقدان مركز الثقل «Core» القدرة على إدارة أزمات وشئون النظام الذى أنتجه، وبذلك يصبح العالم «لا مركزيًّا».
وتحت عنوان «عندما تهوى الإمبراطوريات»، كتب قبل أيام المحرر العسكرى لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، موضحا أن: «تغيير الأمم يعنى تغيير المهيمن، وتغيير المهيمن يعنى مزيدًا من الصراعات والحروب، ومزيد من الحروب يعنى أن التحوّلات والتغييرات فى موازين القوى العالميّة أصبحت واضحة ومؤثّرة».
واستنادا لرأى مودلسكيّ حول دورة حياة النظام العالمى، يمكن لنا أن تصور حال النظام العالمى الحالى، فى ظل التراجع الملحوظ للدور الأمريكى (المهيمن)، والتخبط الواضح فى تعامله مع سائر الأزمات حول العالم.
الامبراطورية الأمريكية
وفى كتابه المهم «الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» الصادرة طبعته الأولى عام 2003، عن دار الشروق المصرية، يعدد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى نقاط محددة، مزايا هذه الإمبراطورية والتى جعلتها مختلفة ومحصنة إلى حد الكمال، فيصفها قائلا: «هذه الإمبراطورية الأمريكية تملك من عوامل القوى الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقتها طول التاريخ. وتوظف لخدمة أهدافها أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنسانى فى كافة المجالات. وتملك سطوة فى السلاح لم تتوافر لغيرها.. مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية. واستطاعت أن تعرض نوعا من جاذبية النموذج يمهد لتوسعها وانتشارها بغواية فى أساليب الحياة تعزز وسائط القوى. كما تمكنت من أسلوب جديد فى السيطرة.. يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام واختراق خصوصيات الدول والشعوب.. والقدرة على خطف وعى الآخرين وارتهانه.. أسير إعلام مصور وملون.. مكتوب وناطق.. يعطى لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأى العام العالمى وسحب الآخرين وراءه».
ويضيف الأستاذ أن: «هذه الإمبراطورية عاشت حياتها بعيدة عن أى تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مددا وفيرا، وبالتالى قدرا ضخما من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحيانا عن الحد»، وهو ما يصل بنا إلى الحكمة الصوفية المأثورة التى وظفها هيكل فى موضعها بالتمام، مؤكدا: «عند التمام يبدأ النقصان، فكل كائن حى له أجل، ولهذا الأجل مراحل، طفولة وصبا وشباب وكهولة وشيخوخة وموت وذلك قانون نافذ حتى على الإمبراطوريات باعتبارها كيانات حية». وهو ما يتوافق مع رأى مودلسكى حول دورة حياة النظام العالمى.
لعبة كل رئيس أمريكى
وفى أحد (مقالاته اليابانية)، يقول الأستاذ هيكل تحت عنوان: «الشرق الأوسط لعبة كل رئيس أمريكى»: «إلى عهد قريب كانت أهمية الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة تتمثل فى عنصرين مهمين هما الموقع الاستراتيجى وموارد البترول، أما فى الأوقات الحالية فاستطاع الشرق الأوسط أن يقدم نفسه للولايات المتحدة بميزتين جديدتين هما: واقع أن الشرق الأوسط هو المنطقة التى يستطيع فيها كل رئيس أمريكى أن يجد بسهولة نقطا يضيفها إلى أرصدته فى استطلاعات الرأى العام، بأن يثبت فيها رجولته وقدراته على الفعل، كما تجد فيها أى إدارة أمريكية ميدانا مفتوحا لتجارب ممارسة القوة لكى تثبت لنفسها وللآخرين أنها الأقوى».
ولعل بايدن هو الرئيس الأمريكى الأقل حظا فى مسألة إثبات الرجولة بمنطقتنا المحظية، وهو ما استشعره مبكرا بوصفه سياسيا مخضرما فظل أغلب النصف الأول من مدته الرئاسية مفضلا الابتعاد عن الإقليم بمشكلاته تاركا أمره إلى لاعبين آخرين.
إلى أن دفعته أزمة ارتفاع أسعار البترول الحاصلة بفعل الحرب فى أوكرانيا على تجرع زيارة السعودية فى يوليو 2022، ومصافحة ولى عهدها الذى كان فى السابق يتوعد بلاده بأن تكون «دولة منبوذة».
فيما شكل حافزا أكبر على تعميق العلاقات، تزايد النفوذ الصينى فى المنطقة، لحد تدخلها فى الوساطة بين السعودية وإيران ورعاية المصالحة التاريخية بين الدولتين فى مارس 2023، ثم كان ما بدا على معظم دول المنطقة المؤثرة من الوقوف على الحياد فى صراع «تغييرات النظام العالمي» الذى تشكل بعد المواجهة الروسية الغربية المفتوحة، بالإضافة إلى الملف النووى الإيرانى وتنامى الدور الفارسى فى أوصال المنطقة، كل هذه العوامل مع اشتعال المنافسة مع غريمه ترامب جعلته يهرول إلى تل أبيب لعله يحظى بـ«الرجولة» بحسب وصف الأستاذ فى منطقتنا المثيرة، فجاء يلهث بعد أيام من طوفان الأقصى محتضنا نتنياهو مرغما، وطوال أيام الحرب أجزل العطايا أملا فى أن يحصل على البركة المتوسطية.
لكن اليوم ونحن فى الشهر الثامن من اندلاع الطوفان فى الشرق الأوسط، ووفقا لشبكة «cnn» وعلى لسان محللها السياسى الشهير فريد زكريا، فإن فرص بايدن تتراجع أمام ترامب، لحد وصفه بأنه أصبح يصعب عليه ملاحقته، وهو ما أكده أيضا الإعلامى السعودى ممدوح المهينى فى مقاله الأخير «بوتين ونتنياهو والسنوار يعيدون ترامب للبيت الأبيض!» المنشور قبل أيام فى صحيفة «الشرق الأوسط»، والذى استهله قائلا: «لو أجريت الانتخابات الأمريكية اليوم، فعلى الأرجح سيفوز الرئيس ترامب. حتى خصومه يقولون ذلك ويعترفون بمرارة بهذه الحقيقة».
إسرائيل ونهاية الطريق
وأختم من كتاب «العربى التائه» للأستاذ هيكل، وفصل تحت عنوان: «وإسرائيل أيضا عند نهاية طريق»، وما أوصلها إلى ذلك هو «وهم السلاح»، موضحا أنه: عندما يطيح «السلاح» متجاوزا حدوده وكل حدود فإن أداءه يتنازل من «القتال» إلى «القتل».
ويكمل الأستاذ: «وإن كانت ممارسة «القتل» خطرا على الذين يتعرضون لنيرانها. فإنها أخطر فى المدى الطويل على الذين يمارسونها. ذلك أنه عندما يتواصل سفك الدم تموت الأعصاب، وحين تموت الأعصاب يموت الضمير، وعندما يموت الضمير تموت الثقافة، وعندما تموت الثقافة يتساوى الإنسان فى المدينة مع الوحش فى الغابة تاركا عقله فى كهوف الظلام».