
ياسر الغسلان
بين أن لا تجادل وأن تجادل
كانت عبارة (لا تجادل) أكثر العبارات التى أسمعها من أساتذتى فى المدرسة وبشكل مستمر وفى أى مناسبة أتجرأ فيها سائلًا، حتى أصبحت بالنسبة لى تلك الجملة توازى فى خطورتها القول بأن فلانًا لا يصلى أو أنى أتلصص على بنت الجيران، جميعها تقع فى باب المحرمات التى قد تأخذنى للدرك الأسفل من غرفة المدير وما أدراك ما العذاب النفسى الذى سأخلد به يومى.
الجدل وهو كما تصفه المعاجم «فنّ المناقشة بطريقة الحوار» كان قمعه بالنسبة لأساتذتى حلهم السريع للتعامل مع سؤال طفل تجرأ محاولة التفكير خارج الصندوق، طفل اعتقد أن له الحق فى أن لا يقبل الأمور فقط من خلال الحفظ بل من خلال الفهم، ورغم أن الأسطورة الشعبية تحاول أن تقنعنا بأن هناك أمورًا تحفظ فقط وأمورًا تفهم والفارق بينهما لا يلغى أحدهما الآخر، إلا أنى كنت دائمًا أرى أن الحفظ هو عمل الآلة مثل الثلاجة التى تحفظ الطعام، بينما الفهم هو عملية هضم الطعام التى تحتاج وعيًا ورغبة، فإن كنت أرى فى نفسى إنسانًا فواجبى أن أفهم باعتبارى إنسانًا واعيًا وإن كنت سأسلم نفسى للحفظ فأنا بالتالى لست سوى آلة.
الجدل مفهوم معقد وبسيط فى ذات الوقت، بساطته وتعقيده تعتمدان على الطريقة التى نحاول نحن من خلالها أن نتعامل مع مكونات هذا المفهوم وتطبيقاته الفكرية والعملية، فإن قبلناه وجعلناه جزءًا من تكويننا الثقافى أصبح سهلًا ومقبولًا، وإن تعاملنا معه بريبة وشك سيصبح رجسًا من عمل شيطاننا الداخلى وعقدة مذمومة لا يمكن التساهل والتعامل معها، ولفهم الجدل ابتداءً علينا أن ننطلق من ما تثيره فينا تعريفات المعاجم، فقول «افترض جدلًا أننى» تعنى بالنسبة لى أن هناك افتراضًا ممكنًا وافتراضًا بالمقابل غير ممكن، وبالتالى فالاحتمالية متساوية بين الفرضيتين إحداهما خطأ والأخرى صواب، لا غلبة لطرف على آخر إلا لمن يقدم الحجة أو الدليل المنطقى الذى لا يقبل الشك، فالأمر الذى لا يقبل الجدل هو بطبيعته مسلم به، وعليه فما يقبل الجدل هو مختلف حوله وقابل لأكثر من رأى.
أما التعريف المستنبط من المراجع الغربية فيقول إن الجدل هو «السبب أو الأسباب المؤدية لدعم أو معارضة الفكرة أو الاقتراح، أو هى عملية شرح وإثبات هذه الأسباب» فالسبب هنا هو الدليل المنطقى المستخدم لإثبات أحقية تبنى الرأى أو الموقف موضع الجدل، والذى نشأ من محصلة تفكير ذاتى وتراكم خبرات حياتية ومواقف شخصية أنتجت قناعات راسخة بنيت على أساسها تلك الأسباب التى تعتبر الذخيرة المستخدمة فى عملية الجدل.
الجدل والحوار يعدان من الركائز الجوهرية لاستمرار صلابة البناء المجتمعى، فالرأى الأحادى لم يعد له مكان فى ظل التلاقح غير المسبوق للأفكار وتدفق المعلومات والآراء التى أصبحنا جزءًا منه، ولمن يعتقد أن التعاطى مع الاختلاف باعتباره عدوًا قادمًا سيفتك بوحدتنا أقول، لم تكن هناك من أساسه وحدة إنسانية عبر التاريخ كله، فالعالم خلقه الله شعوبًا وقبائل لتتعارف ولم يخلقنا الله ليتغلب أحدنا على الآخر، فالمعركة كما أصبح معروفًا اليوم هى معركة أفكار فى الأساس، والإرهاب الذى فتك وما زال يهدد مجتمعاتنا لم يحقق ذلك التمدد الموبوء إلا لأنه حورب فقط بالسلاح ولم يجتث بالمنطق وجدال أسسه الفكرية الباطلة، ومنهج أساتذتى السابقين (لا تجادل) يجب أن لا يكون هو المنهج الذى به نربى الأوطان والأجيال القادمة، فبذلك لا ننشئ إلا عقولًا مثل الآلات تحفظ مثل الثلاجة طعامًا إن لم يتفاعل مع مكونات الطهى فمصيره مع مرور الأيام أن يتحلل ويتعفن.