
د. ايريني ثابت
تحرير العقل
صديقة عزيزة أرسلت لى بشأن مقالى السابق (ضمور العقل)، تسأل كيف نتجنب حدوث هذا الضمور فى عالم صارت فيه المعرفة سلعة، واسمها الجديد هو (المعلوماتية) التى نأخذها (كوبى – بيست) من أى مصدر إنترنتى ونظن أنها صحيحة.. ماتت كلمة المعرفة التى كانت تسعى للبحث عن الحقيقة، وحلت محلها سلعة المعلوماتية.. وللمعلوماتية مُلّاك يطرحون منها ما يريدون وما يناسب مصالحهم، ولا مانع من تشويه المعرفة وطمس الحقيقة للوصول إلى غايتهم التسويقية، وتصدير أفكار مغلوطة على أنها الحقيقة.
أرسلت صديقتى تسألنى: ماذا نفعل لنجابه هذا التيار الخطير الذى دخل مرحلة جديدة من الخطورة باستخدام الذكاء الاصطناعى الذى تسأله أن يكتب لك بحثا عن موضوع ما، فينقل لك (المعلومات) ويدونها، ويرتبها، ويصيغها، وتأكلها أنت على طريقة: آدى البيضة، وآدى اللى سلقها، واللى قشرها... ويكون الذكاء الاصطناعى قد قام بكل ما سبق حتى تأكلها أنت فى نهاية المطاف.. والسؤال مِن صديقتى: ماذا نفعل لأولادنا؟
وكان تعليق أستاذى الكبير على المقال هو إجابة لصديقتى.. إذ يرى أن الحل الوحيد هو تعليم وترسيخ التفكير النقدى.. كيف نقوم بتعليم التفكير النقدى؟ أخبر ابنك منذ طفولته بأن ليس كل ما يقال حقيقى، وأن ما يراه على أى شاشة من صور متحركة أو ثابتة أو كلمات مكتوبة لا يحمل الحقيقة فى ذاته.. اجعله يعرف الحدود الفاصلة بين الخيال والحقيقة.. خياله هو صوالحقيقة التى يعيشها؛ وخيال الآخرين الذى لا ينبغى أبدا أن يفرضه عليه أحد.. إياك أن تنتهر أبناءك عندما يسألونك أى سؤال.. أجب على السؤال إن استطعت، وإن لم يكن مناسبا ابحث عن الإجابة المناسبة وأجب واستجب لطفلك.. لا تقل له: (قل حاضر)، إلا إذا كان يعرف سبب ضرورة الطاعة فى هذا الموقف.
شجع طفلك على ترك أدوات الاستقبال من موبايل وأجهزة ذكية وغيرها، وساعده لكى يواجه العالم الحقيقى بلغة الجسد والنظر إلى العينين حين يتحدث مع أحد، والكلام بوضوح، والتعبير عن نفسه شفهيا، ومحادثة الكبار وأيضا الصغار الذين هم فى مثل سنه.. اجعل ابنك يلعب ألعابا يتحرك فيها بجسده ويفكر فيها بعقله ويجرى ويقع وينط ويقوم.. كم من الآباء والأمهات لا يزالون يعلمون أبناءهم: إذا قابلت صديقا أو قريبا، قُل: صباح أو مساء الخير، أو سلام، أو سلام عليكم؟ كم من الآباء يعلمون أولادهم المصافحة؟ كيف تسلم بيدك وتنظر بابتسامة لمن تسلم عليه؟
حين يكبرون قليلا ازرع فيهم التفكير النقدى.. اشرح لهم كيف يقومون بتحليل الموضوع، أو الخبر، أو الرواية، أو الفيلم.. وكيف ينتقدون عملاً فنيًا، أو حتى تصرفا حقيقيا فى المجتمع.. اجعلهم يفهمون أصول التفكير النقدى الذى يعتمد على الحقائق ويهدف إلى البحث عن الحق.. كيف يبحثون عن المعرفة الحقيقية؟ ما هى مصادرها؟ المصدر الواحد لا يكفى.. لا يصح أن يبحث لك شخص ما، أو تطبيق ما، عن الحقيقة، ثم تأخذها أنت بتسليم إنسان جاهل فاقد العقل.. ابحث أنت.. جاهد فى القراءة والاطلاع وسؤال المختصين والسعى بالأسئلة.. اسأل واسأل واسأل كثيرا.
قل لأبنائك إن الشك الذى يدفع للبحث عن الحق هو أفضل عمليات العقل.. إذ يدفع مصنع العقل لإنتاج الأسئلة، والبحث عن إجاباتها.. قل لأبنائك إن المعرفة أفضل من الدرجات النهائية فى المدرسة.. وأن قدرات العقل أكبر بكثير من تحصيل الدرس لآداء الامتحان.. تأكد من أن ابنك يستطيع القراءة الجهرية بثقة وثبات، وأنه يكتب بخط جميل أو على الأقل منظم ومقروء، وأنه يستطيع أن يحسب الباقى من النقود فى السوبر ماركت.. وإذا لم يكن من الأوائل حين يتقن تلك المهارات، فلا تهتم.
قال جون ديوى: «إننا لا نفكر، إلا حين نقع فى مشكلة».. وأنا أقول لصديقتى: نحتاج أن نفكر كثيرا لأننا فعلا فى مشكلة.