الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ضمور العقل

ضمور العقل

ما الفرق بين المعلومات والمعرفة؟ طرح جان فرانسوا ليوتارد هذا السؤال فى سبعينيات القرن الماضى.. ووجد له إجابة هامة صارت بمثابة نبوءة تحققت فى القرن الحالى بكل التفاصيل التى ذكرها هذا الفيلسوف الفرنسى صاحب النظرة الصائبة.



يعتقد ليوتارد أن هناك فرقا كبيرا بين المعرفة والمعلومات.. فالمعرفة داخلية تعيش وتنمو داخل العقل البشرى، أما المعلومات فتطير خارج الإنسان فى الفضاء الافتراضى.. المعرفة تعتبر مكونا أساسيا من العقل البشرى، فى حين لا تمثل المعلومات سوى مكون إخبارى أو تسويقى يخاطب عقل الإنسان لعله يصدق محتوى المعلومة.. المعرفة تصير إيمانا وسلوكا إنسانيا يغير ويطور من الإنسان على مدار رحلة حياته، أما المعلومات فينقلها الإنسان من مكان إلى مكان، ومن جهاز إلى آخر، أو من موقع إلى تطبيق دون أن تدخل إلى عقله أو تغير فيه أى شىء.

لم يكن العالم يعرف الإنترنت وقتما وضع ليوتارد نظريته، ولكنه رأى اتجاه العالم إلى جمع المعرفة وتخزينها خارج عقل الإنسان.. وهذا ما حدث.. تحولت المعرفة إلى داتا يقومون بتخزينها على أقراص مدمجة وهارد ميمورى ثم على فضاء افتراضى.. تحولت من معرفة إلى معلومات تبتعد يوما فيوما عن عقل الإنسان.. وصار على الإنسان أن يتعامل مع المعلومات لا بمحاولة تخزينها فى عقله، بل بالبحث عنها فى محركات البحث وعندما يجد ما يسد به خانة فى دراسته أو ورقته البحثية، يقوم بنقلها من هناك إلى هنا، دون أن تمس منه عقلا ولا قلبا. إن تسليع المعرفة هو أخطر كارثة تنبأ بها ليوتارد ونعيشها الآن.. حين تتحول المعرفة إلى سلعة من المعلومات يمتلكها أفراد أو مؤسسات يتحكمون فيها وبالقدر والكم والكيف الذى يطرحونه فى الأسواق منها، تحدث الكوارث الكبرى.. وحين يشوهون المعرفة فى شكل جديد للسلعة المعلوماتية، ويصدرون الكذب على أنه حقيقة، ويصدقهم العالم الذى سلبوا منه المعرفة الحقيقية، فقل وداعا للعقول البشرية، ومرحبا بعالم مسكين فقد عقله.. حين لا تتصل المعرفة بالبحث عن الحق والحقيقة، وتأتى المعلومات المهدفة التى تسعى لتصدير ما ليس حقا على أنه الحق، فاعلم أن المعرفة الجميلة قد ماتت بكل علومها، وحلت محلها المعلوماتية القبيحة الخاضعة للسوق وقوى الاقتصاد ومن هو المتحكم وماذا يريد أن يقول للعالم.

والأدهى– وهو ما لم يصل إليه عقل الفيلسوف الفرنسى– هو أن المرحلة الجديدة فى المعلوماتية سوف تلغى دور الإنسان حتى فى البحث! إذ إن تطبيقات الذكاء الاصطناعى الجديدة من نوعية Chatgpt وغيرها قد منحت العقل البشرى إجازة مفتوحة من التفكير والبحث وأى جهد ذهنى على الإطلاق.. فالإنسان الجديد فى عالم اليوم صار أفضل حالا بكثير من أجداده وآبائه.. كان الأجداد يهللون حين اخترعت ماكينة تصوير الأوراق.. فهم لن يضطروا لنقل المعلومات من كتب المكتبة بالنسخ بأيديهم على أوراق كراساتهم، فصاروا لا يكتبون.. وتهلل أبناؤهم بجهاز الكمبيوتر وشاشته والكى بورد وتخزين المعلومات لحين الحاجة إليها، فصاروا لا يقرأون.. أما الآن، ومع الذكاء الاصطناعى، وعدم الحاجة حتى إلى البحث عن معلومات أو تخزينها، فقد أصبحوا لا يفكرون..

الفرق بين المعرفة والمعلومات هو الفرق بين الإنسان صاحب العقل والتفكير، والآلة التى تمتلك القدرة على التخزين.. العقل البشرى يعمل بوقود ذاتى عن طريق التفكير والتحليل والابتكار والاختراع والتطوير، وإذا سلبنا من العقل البشرى وظائفه الحيوية وألهيناه فى الاستقبال بدلا من الإرسال، ووضعنا أمامه المعلومات بدلا من أن يبحث عنها، فإن هذا العقل سيضمر.. وحينئذ، وبسهولة شديدة، سيفقد الإنسان القدرة على تمييز الحقيقة، وسيصدق الأكاذيب، وسيسهل قيادته ليدمر نفسه بنفسه.