الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كتاب و أديب.. دار النشر قامت بطبعها بعد تعديلات كثيرة خوفًا من دعاوَى التشهير «ابنة القس» الرواية التى رفض كاتبها أن ينشرها الحلقة (10)

كثيرًا ما كان يتعرض المجتمع الكنسى لانتقادات كثيرة؛ خصوصًا أن الحياة الاجتماعية الغربية قلّما ما كانت تنفصل عن الكنيسة وقيادتها، وبالتالى كانت دائمًا ما تكون مادة خصبة للأدب؛ فهى جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع، وكانت تخرج الثورات ضدها كثيرًا مثلما تمرّد مارتن لوثر، وأيضًا رفع فى مواجهة سُلطتها المقولة الشهيرة: «الدين أفيون الشعوب».



 

فى عام 1935 نشرت رواية «ابنة القس» للكاتب الإنجليزى چورچ أورويل لأول مرّة وكان قد بدأ فى كتابتها فى منتصف يناير 1934، وختمها فى 3 أكتوبر من العام نفسه ولكن بعدما أرسلها إلى وكيله ليونارد مور، رحل إلى ساوثوُلد ليعمل بدوام جزئى فى مكتبة بمنطقة هامبستيد.

وبَعد عدة تعديلات فى اللحظات الأخيرة خوفًا من دعاوَى التشهير، نشرتها دار غولنتش فى 11 مارس 1935. تدور أحداث الرواية حول «دوروثى هير» ابنة القس التى تنقلب حياتها رأسًا على عقب بعد أن أصيبت بنوبة فقدان للذاكرة، وذلك بعد المعاملة السيئة التى تتعرض لها فى منزل أبيها؛ حيث ألقى عليها كل الخدمات التى كانت تقوم بها أمُّها بعد وفاتها، حتى إن الناس كانوا يشكون أنه لو تمكن أن يترك لها مهمة الوعظ لكان فعل.

لقد كان «تشارلز هير» والدُ «دوروثى»، رجل دين أنانيًا لا تظهر روحانيته أو عطاؤه إلا بصفة رسمية فقط، فهو يعتقد أن التجار وطبقة العمال أدنى منه فى المكانة، ويأبَى أن يدفع لهم المال.

وهو يمتلك مَخزونًا متضائلًا من المال، حتى ينتهى به الحال مديونًا بشدة.

يجسّد «أورويل» فى روايته المَشاكل والمواجهات التى كان يعانى منها المجتمع فى ذلك الوقت وعلى رأسها علاقة الكاهن برعيته؛ حيث كان «تشارلز» يكره مخدوميه ويتعامل معهم بتعالٍ ويرَى أنهم لا يستحقون خدمته لهم فيقول: «لقـد بـدأت الصـلاة. كان القس بردائه الكهنوتى وسترته الكتانية القصيرة يتلو صلواته بصوت سريع متمرس وواضح بعد أن وضع أسنانه الاصطناعية لكن بأسلوب غير ودّى لافت للنظر». 

وعلا وجهَه الهرمَ النزقُ والشاحبُ كقطعة عُملة فضية تعبير من العزلة والازدراء تقريبًا وكـأنـه يقـول هـذا قـريبان شـرعى وواجبى أن أقدمـه لكم، لكـن تـذكـروا بـأننى قسـّكم الوحيـد ولسـت صـديقكم وككائن بشرى أنا أكرهكم وأحتقركم».

وأظهرت رواية «أورويل» طبيعة الكره المتبادل بين الطرفين، بين القس الذى نسى بأن خدمته لا تقتصر فقط على جدران الكنيسة الأربعة، وبالتالى لم يخدم رعيته التى أصبحت غارقة فى تجاوزاتها وإلحادها، والرعية التى تنظر للقس بأنه لا يأبَه بهم ويكرهونه لأنه فقير ومُعدَم ولا يساعدهم إلا أنهم وكما يقول أورويل على لسانهم أنهم لن يحبوه أيضًا إذا كان من الأغنياء أيضًا.

ولم تقف رواية «أورويل» والتى كان يخشى نشرها كثيرًا عند هذا الحد؛ بل إنه تطرّق لفكرة توريث الكهنوت؛ حيث لم يكن تشارلز يسعى للكهنوت إلا لأنه كان من عائلة كهنوتية، وهو الأمر الذى يعطى صبغة سُلطوية وهيبة تفرض على الجميع، وهو ما حوّلها لمجرد مهنة يمتهنها وليست خدمة يسعى إليها.

وكشف «أورويل» فى روايته أيضًا معاناة الكاهن فى حياته؛ حيث كان يعيش حياة تعيسة ترجع أسبابها لإجباره على الزواج من فتاة لا يحبها، ولكن أجبر عليها حتى تتم رسامته لأنه لا بُدّ للكاهن أن يكون متزوجًا، وبالتالى عاش فى حياة كئيبة تملؤها الخلافات والمشاكل، إلا أنه لم يستطع أن يتحدث مع أحد حول كنهها لأنه كان محرمًا على الكاهن أن تسمع عن حياته الخاصة أى مشاكل أو منغصات، ولذلك ظل حبيس تعاسته؛ مما انعكس على حياته الكهنوتية.

وتناولت الرواية أيضًا مشكلة تناقص أعداد الرعية وأسبابها والذى منها الخلافات بين الطوائف المختلفة، فيقول عن القس تشارلز: «لقد استطاع فى ثلاث وعشرين سنة أن يقلص عدد المتعبّدين فى كنيسته من ستمائة مُتعبد إلى أقل من مائتين. لم يكن هذا جراء أسباب شخصية فقط؛ بل بسبب الكنيسة الإنكليزية القديمة العليا التى تحمل على مضايقة كل الجماعات فى الأبرشية على السواء.

فى هذه الأيام لم يبقَ أمام القس الذى يريد أن يحافظ على مُصليه سوى طريقين مفتوحين فقط؛ الأول أن تكـون كنيسته أنغلوكاثوليكيـة نقيـة وبسيطة أو نقيـة وغير بسيطة، أمـّا الطريق الثانى فهو أن يكون القـس نفسـه عـصـريًا بشكل جرىء وواسع العقل ويلقى عظات مريحة تثبت عدم وجود جهنم وأن الأديان الجيدة كلها متشابهة، لكنه لم يتطرق لا هذا ولا ذاك.

من جهة كـان يكـن أعمقَ الازدراء للحركة الأنغلوكاثوليكيـة الـتـى مـرّت دون أن تترك أى تأثير عليـه (كـان يسميها الحمى الرومانية).

ومـن الجهة الأخرى تعالى جدًا على الأعضاء القدماء فى الأبرشية، فقد كان مـن وقـت لآخـر يخيفهم ويخرجهم عـن طـورهم باستخدامه كلمـة (كاثوليكى) المشئومة فى غير مكانها المقدس فى العقيدة والوعظ أيضًا، لذلك كـان مـن الطبيعى أن تتضاءل جماعة المصلين سَنة بَعد أخـرى.

وتُعَد «ابنة القس» الرواية أهم رواية تجريبية لأورويل، وهى تحتوى على فصل مكتوب بالكامل بالصيغة الدرامية، ولكن أورويل لم يرضَ بها مطلقًا وأمر بالتوقف عن طباعتها بعد وفاته، وعلى الرغم من تلك التعليمات؛ فإن أورويل وافق على طباعة نُسَخ رخيصة من «أى كتاب من شأنه أن يجنى بعض الجنيهات للورثة» عقب وفاته.

كان چورچ أورويل مثيرًا دائمًا للجدل وجريئًا فى تناوُل مشاكل مجتمعه، ولذلك كان يكتب تحت اسم مستعار، فهو إريك آرثر بلير صحافى وروائى بريطانى.

عمله كان يشتهر بالوضوح والذكاء وخفة الدم والتحذير من غياب العدالة الاجتماعية ومعارضة الحُكم الشمولى وإيمانه بالاشتراكية الديمقراطية، ويُعتَبَر القرن العشرون أفضل القرون التى أرّخت الثقافة الإنجليزية.

كتب أورويل فى النقد الأدبى والشعر الخيالى والصحافة الجدلية، أكثر عمل عُرف به هو عمله «الديستوبى» رواية 1984 التى كتبها فى عام 1949م وروايته المجازية «مزرعة الحيوان» عام 1945م، والاثنان تم بيع نسخهما معًا أكثر من أى كتاب آخر لأى من كتّاب القرن العشرين.

كتابه «تحية لكتالونيا» فى عام (1938) كان ضمن رصيد خبراته فى الحرب الأهلية الإسبانية، والمشهود به على نطاق واسع على أنه مقاله الضخم فى السياسة والأدب واللغة والثقافة. فى عام 2008م وضعته صحيفة التايمز فى المرتبة الثانية فى قائمة «أعظم 50 كاتبًا بريطانيًا منذ عام 1945».

 استمر تأثير أعمال أورويل على الثقافة السياسية السائدة ومصطلح «أورويلية» الذى يصف ممارسات الحُكم الاستبدادى والشمولى والتى دخلت فى الثقافة الشعبية مثل ألفاظ عديدة أخرى من ابتكاره مثل «الأخ الأكبر والتفكير المزدوج والحرب الباردة وجريمة الفكر وشرطة الفكر».

عانى أورويل من مرض السُّلّ فى وقت مبكر وتُوفِيَ فى العام 1950 ولم يبلغ حينها سوى السادسة والأربعين من العمر.

ولكن لم يكن أورويل فقط الذى يمتلك من الجرأة الكافية ليخوض فى أعماق مشاكل المجتمع الكنسى؛ ولكن جاء بعده الكاتب الإيطالى «داريو فو» الذى كتب رواية «ابنة البابا» فى محاولة منه لرد اعتبار «لوكريسيا» التى ظُلمت كثيرًا والتى سنتعرف على قصتها العدد المقبل بإذن الله.