الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
«الديب» الشريد

«الديب» الشريد

الفنون جنون.. وبين عبقرية الفنان والجنون خيط رفيع.. ذلك لأن العبقرية استثناء وخروج على المألوف وكذلك الجنون.. لكن الفارق الجوهرى – كما يرى رجاء النقاش– أن العبقرية تبنى وتضيف عناصر إيجابية إلى حياة صاحبها وحياة الناس.. أما الجنون فهو تدمير لصاحبه ومحاولة لتدمير الآخرين.



«وهام بى الأسى والبؤس حتى كأنى «عبلة» والبؤس «عنترة» صاحب هذا البيت هو الشاعر الموهوب «عبدالحميد الديب» (1898 – 1934) والذى ظهر وسط جيل العباقرة الكبار من الأدباء والشعراء أمثال «شوقى» و«حافظ» و«العقاد» و«طه حسين».. ولكنه كان صعلوكًا فقيرًا بائسًا بلا عمل وبلا مأوى ينام على أرصفة الشوارع وفى المساجد والحدائق العامة.. ويرتدى ملابس رثة ويهجو فى شعره العنيف – والذى كثيرًا ما كان بذيئًا– كل من يقابله فيقول مثلًا فى بعض الأدباء والصحفيين من معاصريه: يا رجال الشعر والفن الرصين/ لعن الله أباكم أجمعين.

وقد سقط «الديب» ضحية إدمان «الكوكايين» الذى دمر أعصابه وأهلك صحته العقلية.. فانتهى به إدمانه إلى السجن ثم إلى مستشفى الأمراض العقلية.. وتوفى فى مستشفى «قصر العيني» ولولا الإدمان لكان «للديب» شأن كبير فى تاريخنا الأدبى المعاصر.. و«الكوكايين» يؤدى التعاطى المستمر له إلى الهذيان والضلالات الوهمية الزائفة والتدهور النفسى والعقلى والسلوك العدوانى تجاه الآخرين، وهو ما يفسر لنا الصدام الحاد والهجوم الضارى الذى كان يشنه «الديب» بسبب وبدون سبب ضد الناس والمجتمع.. والمدهش فى حالة الديب أن ضعف إرادته فى مواجهة بؤسه وعدم قدرته على تجاوز ظروفه المعيشية البائسة والذى أسلمه إلى الإدمان.. ما لبث أن حوله إلى شخصية مازوكية يستعذب الألم وإيذاء النفس.. بل يسعى إليه.. فقد استسلم «الديب» إلى استمراء الناس وترحيبهم بقصائده التى يتحدث فيها عن «البؤس» والشفاء وظلم الأقدار وغدر الأيام وبشاعة الحاضر وظلام المستقبل.. وإحساسه بالغبن.. والاضطهاد وسوء ظنه بالناس وهجائه لهم، بل ازدرائه لنفسه وأفصح عن ذلك فى مطلع قصيدة يقول فيها: «وقد ساء ظنى بالعباد جميعهم/ فأجمعت أمرى فى العداء.. وأجمعوا».

وهو بذلك يصنف كشخصية «سيكوباتية» تخاصم المجتمع وتتخذ سلوكًا عدوانيًا تجاه الآخرين يقول فى ذلك الناقد الكبير «رجاء النقاش» فى كتابه الممتع «عباقرة ومجانين» وصل الشاعر إلى حالة من الرضا الخفى بمصيره البائس فقد أصبح مشهوراً بين المشتغلين بالأدب والصحافة فى عصره بهذه الشخصية الخاصة التى تعيش فى بؤس وتشرد وتجد فى ذلك مصدراً للإلهام الشعرى، حيث كان الجميع يستمعون إلى قصائده وينتظرون منه دائماً أن يكتب فى هذا الموضوع الواحد والأساسى وهو البؤس والشكوى من الناس والحياة.. ولهذا أصبح الناس لا يتصورونه فى غير هذا الدور الناجح المحدد.. والذين كانوا يساعدونه ببعض المال تعمدوا أن تكون مساعدتهم قليلة ومحسوبة حتى لو كانوا قادرين على أكثر من ذلك بكثير.. وكان السبب الكامن وراء قلة المساعدات هو أن يبقى الشاعر فى دوره المرسوم له.. وهو دور البائس الضائع التعيس.. فتلك هى الصورة التى يرضاها الناس ويستمتعون بها.. وذلك هو الدور الذى استسلم له الشاعر وأتقنه حتى أصبح علامة عليه.. ومصدرًا وسبيلًا لتفرده بين شعراء عصره وأدبائه.