الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الذين يسرقوننا بالتراضى!

الذين يسرقوننا بالتراضى!

وجدت صديقى غاضبًا حانقًا متألمًا للغاية، هو إسكندرانى نتقابل كلما زرت المدينة التى نتشارك فى عشقها بالرغم من التشوهات الهائلة التى لحقت بها فى الثلاثين سنة الأخيرة، تشوهات برًا وبحرًا، أصابتها بالدمامل العشوائية، مبان وتصرفات، إسكندرانى لكن تحسه «لورد» بريطاني أصيل، ليس فى ملابسه فقط، فهو فى غاية الأناقة صيفًا وشتاءً، البدل الشيك والجرافتات «السينيه» والعطر الرائق، وإنما فى لغة التخاطب وسلوكياته العامة والخاصة، وأيضا هو مرتب ومنظم إلى درجة تغيظ، ثابت على عادات معيشية مثل قطار أوروبى يستحيل أن يتلكأ ثانية واحدة عن موعد تحركه أو يتأخر ثانية عن موعد وصوله لأى محطة مهما طال طريقه، والأهم أنه حريص جدا فى تعاملاته المالية، كل مليم فى مكانه الصحيح، بالرغم من أنه «مليونير»، نعم مليونير، صحيح أن الملايين الآن لم تعد لها نفس الأبهة التى نمت عليها ثقافتنا الكلاسيكية، حتى إننى سمعت حوارًا ذات يوم بين اثنين من أثرياء هذا الزمان قال فيه الأول للثانى وهما يتحدثان عن ثالث يحاول الصعود: يا ترى ما حجم مدخراته الآن؟



 

قال الأول: أظنه ما بين 10 إلى 15 مليون جنيه!

رد الثانى: ياه.. يعنى شحات.. لسه «مشواره طويل جدا»، مبلغ لا يكفى سوى شقة معقولة فى كومبوند وعربية نصف فاخرة، ويرجع على البلاطة!

لكن صديقى ودائعه تقترب من الخمسة وعشرين مليون جنيه، كلها من عمله سنوات شبابه بمؤسسة دولية فى بريطانيا.

المهم أن صديقى كان غاضبا مما حدث له فى كافيه على شاطئ البحر، فقد دعا صديقا مرموقا تعرف عليه من صفحات التواصل الاجتماعى، وجلسا سويا فى مكان شهير له سمعة قديمة، وطلب زجاجة ماء صغيرة وفنجان شاى ثم جاء صديق ثالث وطلب فنجان قهوة، وعند الحساب قال الجرسون: مائة وخمسة وأربعين جنيهًا!

فسأله: هل المحل يعمل «بالحد الأدنى للطلبات»؟

رد الجرسون بأدب: لا.. هذه هى الأسعار بعد 14 % قيمة مضافة و12 % رسوم خدمة!

فرد صديقى بهدوء إنجليزى نسميه برودًا: لن أدفع، وأى إجراء تتخذه أنا معك، ممكن تبلغ الشرطة!

وقع الجرسون فى حيص بيص، وقال له: هذه الأسعار مدونة فى القائمة، وموافق عليها من وزارة السياحة!

فقال له: نحن قاعدون على الرصيف، فكيف يمكن أن تكون قعدة الرصيف «5 نجوم»، والرصيف ملكية عامة حتى لو كان بامتداد الكافيه المُكيف.. هذه سرقة!

دخل الجرسون، وعاد ومعه كبير الندلاء، وهات وخذ فى الكلام والمناوشات، انتهت بأن قال كبير الندلاء: لا تغضب يا سيد ولا تدفع، المحل سوف يحملنا قيمة الطالبات.

فأخرج صديقى المبلغ وبقشيشًا ودفع بهما للجرسون وهو يدمدم.

وقال لي: نعم أريد العودة إلى بريطانيا، أنا غير قادر على التأقلم والعيش هنا.

أذكر حين عاد من بريطانيا قبل 15 سنة، كان فى منتهى الأمل والتفاؤل، لكن بدأ يتململ من أحوالنا، ويقارن بيننا وبين أهل أوروبا قيما وسلوكيات، وقد تجول فى كل دولها تقريبا، وسألني: أليسوا بشرا مثلنا؟، كيف لا نصنع مثلهم فى حياتنا؟، لماذا يعملون بمنتهى الجدية ونحن نمثل أننا نعمل بجدية؟، هناك أهداف وخطط وتنفيذ لا يتوقف، بينما نحن نعيش يوما بيوم أو شهرًا بشهر، أو عامًا بعام حسب التساهيل والظروف والدعاء.

قلت: لا تفسد حياتك بالمقارنة، حتى تستطيع أن تمضى قدمًا، التطور التاريخى ومشوار التحديث مختلف تماما، فلا تبكى على «قرون» ضاعت هباء!

هز رأسه وقال: سأجرب، لكن عليك أن تعرف شيئًا مهمًا، من لا يدرك موقعه وأحواله بدقة، لن يستطيع أن يتقدم خطوة إلى الأمام، معرفة حالك مقارنةً بأحوال الآخرين هى اللبنة الأولى فى تحديد الهدف والمسار والوسيلة.

فقلت: هذا صحيح فى العموم دون أن تغرق نفسك فى تفاصيل الحياة هنا وهناك، فالتفاصيل مثل الرمال الناعمة قد تبتلعك قبل أن تنتبه إلى مواقع قدمك.

بعد بضعة أشهر اندلعت أحداث 25 يناير 2011، ودخلت مصر دوامة الثورة والثورة المضادة والاضطرابات والعنف والفوضى «غير الخلاقة»، فأشغلنا جميعا بكيفية إنقاذ الوطن من التراجع السريع إلى القرون الوسطى الظلامية، ولم نعد نتحدث عن أى مقارنات مع الغرب، حتى استقرت الأحوال وعاد الأمن والهدوء. فقال لي: لقد اطمأن قلبى على الوطن، وحان أوان العودة إلى بريطانيا.

نسيت أن أقول لكم إن صديقى يملك شقة فى لندن..

قلت له: يا عم أنت «تعيش» مستورا، عندك مزرعة.. وشقة فى وسط البلد 300 متر مربع، وساكن فى بيت العائلة بذكريات الطفولة والصبا، وعندك بيت مسنين تصرف عليه من جيبك.. كيف تترك كل هذا؟

قال: لم أعد قادرا على تحمل الناس والاستغلال والسرقة العلنية واغتصاب الحقوق، تخيل لا أخرج إلا قليلا، حتى أتجنب الصدامات الحتمية مع الآخرين، لم يعد الاستغلال والسرقة حالات فردية، صار السطو على حقوقك ثقافة شائعة فى كل جنبات حياتنا، تركب تاكسي السائق يريد أن يحاسبك على مزاجه وليس حسب العداد، لا يوجد تاكسى فى إسكندرية كلها يعمل بالعداد، تأخذ عربيتك، زحام وقرف وغرائب وعجائب من السائقين الآخرين دون ضوابط أو حساب قانونى، وأى ركنة تجد المنادى عاوز من عشرة إلى عشرين جنيهًا! قاطعته معترضا: يا رجل حالك مستور، ولن تفرق معك عشرين ولا مائة وعشرين جنيهًا.

رد بحدة: المسألة ليست قدرة مالية من عدمها، ليست فلوسا أدفعها فى سلع وخدمات أحصل عليها، لكن فى فلوس تسرق منى فى خدمات أو سلع لا تساوى ثمنها.. مسألة مبدأ وقيمة.

ثم سألنى: فاكر الفطاطرى الذى اشترينا منا فطيرتين قبل شهرين ثلاثة؟

ضحكت جدا وصفقت مندهشا: مجرد فطاطيرى، لا رئيس وزراء ولا نجم سينما فى مكانة توم كروز ولا هو كريستيانو رونالدو ينتقل إلى النصر السعودى..

مكفهرًا قال: هذا ليس هزارًا، كلام جد من فضلك..من يومين رحت أشترى فطيرة تشكيلة جبن وخضروات، كم سعرها؟

قلت: أنت الذى دفعت.

قال: خمسة وتسعون جنيها.. فطيرة صغيرة لن تزيد تكاليف صناعتها دقيقا وجبنة وزيتونا وطماطم ومشروما وطهوا على 15 جنيها بأى حال من الأحوال، يبيعها بـ«سبعة» أضعاف تكلفتها، هذا ليس له مثيل فى أى مكان فى العالم، قس على هذا السباك والنجار والميكانيكى والكهربائى والبواب والفكهانى.. إلخ..إلخ، حالة عامة، الكل يريد فلوسا أكثر من قيمة الخدمة أو الجهد الذى يبذله، ويعتبرها شطارة وفهلوة وضحكًا على الذقون، وإذا سألت أى واحد فيهم وقلت له: قليل من الرحمة تصلح الأحوال، يرد بغلظة: والله كارمينكم.. هذا أقل سعر ممكن.

ضحكت محاولا التخفيف عنه: احمد ربنا، محلات بيتزا ممكن تبيعها لك بمائة وثمانين جنيهًا.

لم ينتبه وسألنى: ماذا يعنى أن تكون فازيتة طبيب 800 جنيه، والاستشارة 250 جنيهًا؟

قلت: الطبيب.. سنوات تعليم وقراءات وأبحاث وخبرات، ومن حقه أن يعيش فى مستوى يناسب مهاراته، يعنى لاعب كرة «يسلي الناس» بقدمه يأخذ الملايين، والطبيب الذى يتعلق عمله بالحياة والموت نستخسر فيه بضع مئات أو آلاف.

قال: دست على الجرح، هل لاعبو الكرة يتقاضون أجورا عادلة تناسب الحالة الاقتصادية العامة للمجتمع؟، صحيح من حقهم أن يؤمنوا حياتهم، لكن دون مبالغات فجة.

قلت: السوق لا يعرف العدالة، وله أحكامه الخاصة.

قال: سوق مشوه.. والأسواق المشوهة لا تضبطها القواعد الاقتصادية، وإنما «معايير السوق السوداء»، أسعار سلع وخدمات أقرب إلى السرقة، باختصار نحن نعانى من «ثقافة اغتصاب» شائعة فى السلع والخدمات والتعاملات اليومية، لست قادرا على التأقلم مع مجتمع كل واحد يقدم لى خدمة يسرقنى بالحلال أو يغتصب حقى بالتراضى.

ثم جاءت حكاية زجاجة الماء الصغيرة وفنجان القهوة وكوب الشاى «أبو 150 جنيها»!

قلت له: أنت تتحدث عن أربعة دولارات تقريبا، وربما هذا سعرها فى روما أو لندن أو مدريد.

قال غاضبا: هل نحن نقبض مرتباتنا بالأجر العالمى كى ندفع بالأسعار العالمية؟

استسلمت وقلت: أنت فعلا على حق إلى حد كبير، نعم، هذه حالة شائعة أو يكاد يكون وباء، ونكاد نتفنن فى الحصول على حقوق أو مكاسب أو مناصب دون أن نستحقها، ودون أن نبذل جهدا حقيقيا، خاصة مع شيوع الذين يكسبون كثيرا دون أن ينفقوا رأس المال اللازم من عمل وموهبة ومثابرة وكفاية وتكاليف، لكن قطعا لسنا جميعًا هكذا، فالتعميم خطيئة الخطايا.

وانتهى الحوار وصديقى مصمم على العودة إلى لندن.. لكن هل سينفذ قراره الذى يفكر فيه منذ سنوات؟