
ياسر الغسلان
انهيار أمريكا.. بين الحاضر والتاريخ
بات لافتًا فى السنوات الأخيرة ترديد الكثيرين فى العالم العربى على وجه الخصوص لمقولة أن الولايات المتحدة أصبحت قريبة من الانهيار ككيان سياسى قوى مهيمن على مستوى العالم، وذلك ناتج لترديد العديد من قادة الرأى المشغولين بتوجيه الشعوب بأن الانقسام الذى ولده فى البدء ظهور الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب وما تلاه من صراع سياسى حزبى فى الداخل الأمريكى ينبئ بأن العقد السياسى والاجتماعى الداخلى الأمريكى بات قاب قوسين أو أدنى من الانفراط بسبب الانقسام الحاد الذى شاهده العالم فى أعقاب انتخابات الرئاسة فى 2020 والهجوم على مبنى الكونغرس من قبل المدافعين عن الرئيس المنهزم.
ما حدث فى انتخابات 2020 ليس إلا القشة التى قصمت ظهر البعير من وجهة نظر مرددى نظرية انهيار أمريكا، إلا أن هناك أسبابًا أخرى يرجعها هؤلاء تتنوع ما بين أسباب أمريكية داخلية وأسباب هجينة داخلية وخارجية وأسباب خارجية صرفة، وهى أسباب أو عوامل سبق للتاريخ أن سجل لنا مواقف مشابهة فى التاريخ الأمريكى وتاريخ دول مهيمنة أخرى لم تكن كافية لانهيارها وإن كانت قد خلقت حالة من عدم الاستقرار والتناحر السياسى الداخلى المؤقت.
العامل الداخلى الذى سيؤدى لانهيار أمريكا كما يقولون هو تنمر الليبراليين فى قضية نشر ودعم المثلية الجنسية وكيف أن ذلك سينهى التركيبة الطبيعية المعروفة للبناء الأسرى، الأمر الذى أثار حفيظة المحافظين والمتدينين الرافضين جملة وتفصيلًا ما يصفونه بالشذوذ الجنسى الذى يخالف الطبيعة والشرائع الدينية، إلا أن التاريخ يذكرنا بحالة شبيهة حدثت فى الماضى عندما انقسمت أمريكا وفق نفس المنطق الحالى وذلك فى قضية الإجهاض وصدور القوانين التى سمحت به، وكيف كانت حدة الصراع والصدام قوية ومستمرة لم تتوقف، بل زادت مؤخرًا بعد صدور قرار المحكمة العليا إلغاء قرارها السابق الذى صدر قبل نحو خمسين عامًا.
العامل الهجين هو الاقتصاد الذى له تأثيرات داخلية واضحة، ولكنه نابع فى غالبه من عوامل خارجية وما يعنيه ذلك من إضعاف الاقتصاد الأمريكى، فارتفاع سعر البترول الذى يعتبره الحزب الديمقراطى أنه سلاح انتقامى منها لمواقفها السياسية تجاه بعض الدول المصدرة سبق أن واجهته أمريكا فى السبعينيات من القرن المنصرم عبر المقاطعة العربية إبان حرب ثلاثة وسبعين، ورغم الألم فى الداخل الأمريكى الذى أحدثته تلك المقاطعة فإنه لم يكن كافيًا لانهيارها كما يتصور البعض، بل دفعها لإعادة النظر للمنطقة والسعى لتشتيتها تحقيقها لمصالحها فى المقام الأول.
أخيرًا العامل الخارجى والمرتبط بالهيمنة الدولية والمواجهة الحاصلة اليوم بين أمريكا والصين والتمدد الصينى اللافت فى البقع الجغرافية التى كانت تقليدية مناطق نفوذ أمريكية والتى يرى البعض أنها ملمح رئيسى لانهيار أمريكا، نقول إن التاريخ أيضًا يذكرنا بأن أمريكا ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى بداية التسعينيات من القرن المنصرم كانت تعتاش على المنافسة الشرسة مع الاتحاد السوفييتى، حتى إن الخصم كان على تخوم مناطق النفوذ الأمريكى فى كوبا وأوروبا وجنوب الجزيرة العربية، ورغم ذلك لم تنهَر أمريكا لمجرد حدة صراعها من منافس قوى ومتمدد وقادر على المناكفة كما فعلت موسكو فى السابق وبكين اليوم.
دول صغيرة لم ينهَر نظامها رغم عقود من المقاطعة الأمريكية والحصار الخانق مثل كوبا، فما بالك بدولة بحجم أمريكا تتحكم بالطريق السريع للاقتصاد العالمى ولها تواجد عسكرى فى تقريبًا كل بقعة جغرافية، وإن كان البعض يستشهد بانهيار الإمبراطورية البريطانية لعلنا نذكره أن أمريكا التى ورثتها ليست إلا الابنة الشرعية لبريطانيا، فإن ظهرت ابنة شرعية لأمريكا ربما حينها يمكن الحديث عن انهيار أمريكا الأم.