الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. نساء عكاشة!

كدهوّن!.. نساء عكاشة!

إذا كان الأستاذ إحسان عبدالقدوس يُعتبر من أفضل من جسد مشاعر المرأة وأحاسيسها فى رواياته الأدبية ورصد بمنتهى الدقة جنونها وجنوحها ونزواتها فى الحياة كعاشقة ومتمردة على عادات وتقاليد المجتمع الشرقى، فإننا نجد الأستاذ أسامة أنور عكاشة هو الأكثر استيعابًا لطبيعتها وفطرتها كصانعة ألعاب ومفجرة الأحداث الدرامية والمحرضة الأولى على الحب والغرام رغم وجودها داخل مجتمع شرقى غليظ يعتبر وجودها عورة نراها بعيون عكاشة بصورة مختلفة جدًا عما يعتقده البعض من خنوع المرأة الشرقية وخضوعها لزوجها، فمرأة فى عالم عكاشة قوية كالصخر، ناعمة كقطعة الشوكولاتة الداكنة لديها قدرة رهيبة على أن تهب الحياة إذا أحبت.



 

ورغم ذلك تتحول فى لحظات فارقة من أنثى ناعمة لآلة للانتقام كما يحدث فى الأساطير اليونانية وقد يدفعها شعورها بإهانة كرامتها لإعلان الحرب على أقرب المقربين لديها حتى لو كان هذا المسكين هو حب عمرها، فلن تتردد أبدًا فى الانتقام منه لرد الاعتبار لكرامتها الجريحة. والويل كل الويل لو كان من جرحها عدو مش حبيب؟ فلم نشاهد أبدًا فى أعمالك ثنائيًا يشبه علاقة السيد أحمد عبدالجواد بزوجتك الست أمينة المغلوبة على أمرها فى ثلاثية نجيب محفوظ، بل على العكس نرى علاقة الحاج عامر بزوجته الحاجة آمنة على النقيض تمامًا، فبرغم قوة الحاج عامر ونزواته المتكررة نراه يخشى غضب زوجته الحاجة آمنة حتى إنه عندما يريد الزواج بأخرى يتزوجها سرًا خوفًا من غضب الحاجة آمنة التى تواجهه بثبات وقوة وتحكم عليه بعدم دخول منزلها مرة أخرى، وكأنها تقرر أن تطرده من جنتها ويخضع الحاج عامر ويلتزم بيت زوجته الجديدة تنفيذًا لرغبة الحاجة آمنة الشخصية الصارمة الحاسمة رغم قدرتها على الاحتواء والعطاء واحتضانها لأبناء زوجها وتعاملها معهم كأبنائها، إلا أنها فى لحظة الغضب تثور وتطيح بالجميع وأولهم زوجها التاجر الكبير صاحب الهيبة والمال، ولكنه يقف عندها بخشوع وكأنها أمه وليست زوجته، وفى نفس المسلسل نرى علاقة درامية من نوع آخر بين (بياضة وخميس) تجسد جبروت امرأة عاشقة حُرمت من حبيبها لتزف دون إرادتها لابن الحاج عامر، فتحول حياتها لجحيم وتستغل كل مكر الأنثى كى تتخلص من زواجها منه مادامت لم تتمكن من معارضة والدها، وحين تفشل تتوحش وتتحول من امرأة عاشقة لوحش كاسر تخضع زوجها لسيطرتها وأحيانًا لعقابها الشديد، وهو يخضع فى صمت موجع وكدهون.. فالمرأة فى عالم عكاشة تمتلك من الجلد والصبر ما يجعلها تستمر فى تلك الحروب سنوات وسنوات دون ملل أو كسل، كما حدث مع الست زينب فى مسلسل (الشهد والدموع) فقد لملمت هزيمتها فى صمت وضمدت جروحها وجلست فى هدوء تخطط وتدبر أمرها وتستعد لحربها المقدسة ضد ثنائى الشر (حافظ ودولت) ولا ننسى تلك المواجهة الشرسة التى دارت بين زينب ودولت فى آخر مشهد فى الجزء الأول وكأن عكاشة بذلك يعترف بوجود المرأة فى عالمه منفجرة الأحداث وصانعة الألعاب ومدبرة للمكائد والصراعات، فقد كشفت كل منهما القناع عما تحمله للأخرى من حقد دفين وكراهية وتوعد بالانتقام وأخذ الحق المنهوب، وقد كانت تلك المواجهة خير نهاية للجزء الأول وتمهيدًا لما سيحدث فى الجزء الثانى من حروب درامية تشعلها نساء عكاشة حتى تنال حقها وتحقق انتقامها ولو بعد دهر من الزمن، لم تنس زينب جرحها ولم تفرط فى حقها وانتقمت شر انتقام حتى لو كان على حساب جرح (ناهد) ابنة دولت وحافظ ألد أعدائها، ولكن بهدوء وبدون ضجة ولا صوت عالٍ خططت وأدارت المعركة كقائد عسكرى مُحنّك يضح الخطة وينتظر وقوع فريسته لتعلن انتصارها ولو بعد حين، ولم تكن (ناهد) تلك الفتاة الرقيقة المرفهة أقل قوة من زينب، فقد امتلكت من القوة والإرادة ما يجعلها تواجه أسرتها جميعًا وتترك منزلها من أجل أن تعيش مع من تحب، وفى لحظة اكتشافها أمره وكيف استغلها كوسيلة للانتقام من أسرتها تحول موقفها للنقيض وكتمت جراحها بداخلها بكل حسم، أن تنكسر أو تحول قصتها لبكائية تتغنى بها، وعندما جاء لها مرة أخرى ليعتذر لها لم تتردد فى طرده من حياتها شر طردة وبمنتهى القسوة، وكأن قلبها الذى عشقه وباع من أجله الدنيا قد تحول لحجر صوان من أجل كرامتها، وتتفرغ لبناء نفسها وتستكمل دراستها حتى تحصل على الدكتوراة وتواصل نجاحاتها العلمية رغم كسرة قلبها، وكذلك فعلت أيضًا (نجوى) فى مسلسل «رحلة أبوالعلا البشرى» عندما واصل حبيبها تجريحها وتعمد إهانتها، فحسمت أمرها رغم حبها الشديد له وقررت السفر بعيدًا عن مصر بكل من فيها ومن ضمنهم حبيبها، من أجل كرامتها ضحت بحبها وقررت الغياب وكدهون، فالمرأة فى عالمه شبه إله تهب الحياة لمن تحب وبإمكانها أيضًا أن تدخله الجحيم إذا أرادت ذلك وكدهون، نساء عكاشة مظهرهن عكس جوهرهن، فهن مثل قطعة الشوكولاتة المغلفة بسياج صلب من الفولاذ تجدهن غالبًا جميلات مثيرات يتمتعن بأنوثة فطرية، وفى الوقت نفسه ذات شخصيات قوية وقدرة هائلة على الإدارة والتخطيط للوصول إلى هدفهن بأبسط طريقة مثل شخصية سماسم العالمة فى مسلسل (ليالى الحلمية) نراها من الخارج أنثى مثيرة تستغل أنوثتها فى كسب عيشها من الرقص والغناء فى الصالات والأفراح، إلا أنها بداخلها قوة خارقة تواجه بها أعتى الرجال وفتوات عماد الدين، فلا تبالى برأى المجتمع بها ولا تسمع لغير صوتها هو مرشدها الوحيد فى الحياة وتتحمل مسئولية فرقتها الموسيقية بالكامل رغم أنهم جميعًا رجال، ولكنها هى الأسطى التى تأمر وتنفذ وتتولى رعايتهم وحمايتهم إذا لزم الأمر،  ومازلت أتذكر كيف أدخلها أسامة أنور عكاشة لأول مرة الحلمية مصحوبة بزفة عوالم وموسيقيين شعبيين مهيبة رغم خفة ظلها، بينما هى بمفردها تركب الحنطور وتتقدم الموكب حتى تقف أمام قهوة السماحى وتقرر احتلالها وتحويلها لمسرح غنائى راقص لها ولفرقتها من دون أن تحصل على إذن من صاحب القهوة الفتوة زينهم السماحى، ولكنها قررت وأصدرت حكمها ونفذت، وعندما التقت بعد ذلك بالمعلم السماحى استطاعت بكل ما تمتلك من مكر ودهاء الأنوثة أن تحتويه وتطيب خاطره كطفل صغير يبحث عن الحنان والعطف فى حضن أمه، بل تنجح فى أن تجعله يتزوجها وتتحول بذلك من عالمة مباحة للجميع لزوجة المعلم كبير المنطقة، ويستمر ذلك النموذج فى نفس المسلسل، ولكنه يتطور ويذهب بعيدًا عما وصلت له الست سماسم، فتظهر شخصية حمدية العالمة ذات الطموح الجامح والتى تضحى بالعزيز والغالى فى مقابل تحقيق ذلك الطموح حتى لو اضطرت للتضحية بابنتها الوحيدة حتى تتفرغ للرقص فى الصالات وتتحول لنجمة سينمائية وصاحبة صالة خاصة بها، بل تنجح فى الزواج من دبلوماسى سابق، وفى النهاية تعود لتحضن ابنتها مرة أخرى لتكتمل سعادتها، وهكذا نراها تلعب على كل الخيوط بمنتهى المهارة ونفس الشىء نراه أيضًا فى نفس حلقات الحلمية عندما قررت نازك هانم السلحدار بكامل إرادتها التخلى عن طفلتها وتركها فى أحد الملاجئ ثم بيوت الحلمية المختلفة، وعندما تغير الوضع وكبرت ابنتها زهرة عادت بمنتهى الجبروت لاحتضانها مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن، وعلى النقيض تقف الست أنيسة بمنتهى القوة أيضًا، ولكن لكى تحتفظ بحضانة ابن شقيقتها المتوفاة، ولا تتورع عن الدخول فى معارك عنيفة كى تفوز به من بين أنياب نازك هانم السلحدار زوجة أبيه، وبعد سنوات عديدة تدخل فى نفس الصراع القاتل مع رقية شقيقة زوجها الراحل من أجل الفوز بحضانة طفله من زوجة أخرى وكأنه قدرها فى الحياة أن تربى فى غير ولدها وكدهون، دخلت عالم أسامة أنور عكاشة منذ طفولتى الأولى وربما لم أكن أعرف اسمه فى تلك الفترة، لم أكن أهتم بمعرفة اسم المؤلف ولا المخرج، ولكنى انبهرت بعالم غريب علىّ تحركه النساء دائمًا ما تتفجر الأحداث الدارمية. دائمًا نساء عكاشة صاحبات شخصية قوية مغلفة بالجمال والأنوثة، أغلب الأوقات مسيطرات مفجرات للدراما بشكل أساسى منذ رأيت صراع نازك السلحدار وأنيسة على الاحتفاظ بحضانة الطفل وتطور الصراع بدخول جدته نفيسة هانم وتحيزها لأنيسة على حساب نازك هانم حتى إنها تضطر للهرب بالطفل من سرايا البدرى للإقامة فى منزل أنيسة المتواضع حتى لا تخضع لأوامر نازك، فلم تتوقف كثيرًا أمام تركها للسرايا والحياة المرفهة فى سبيل كرامتها وحمايتها لحفيدها حتى لو اضطرت للعيش فى منزل صغير عكس ما اعتادت عليه طيلة عمرها، فنكتشف بداخلها قوة وصلابة تغلفها خجلها وصمتها أغلب الأوقات حتى توهمنا مع نازك بإمكانية السيطرة عليها وانصياعها، ولكن هيهات فنساء عكاشة من نسيج صلب غير قابل للانكسار وكدهون ونفاجأ بعكاشة يقدم لنا شخصية مختلفة تمامًا عما سبق أن قدمه رغم اشتراكها مع باقى شخصياتها بنفس المواصفات والملامح وإن تغيرت خلفيتها الثقافية والاجتماعية، فقدم لنا أبلة حكمت تلك الشخصية القوية التى تنجح فى إدارة مدرسة «نور المعارف» بمنتهى الحسم والحزم دون أن تبالى بالعقبات والصعوبات التى تواجهها فى سبيل تحقيق هدفها بالوصل بالرسالة التعليمية لجميع الطلبة بصرف النظر عن ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، فتدخل فى حروب ضارية مع الجميع حتى نفسها وكأنها دون كيشوت تحارب طواحين الهواء بمفردها، ولكنها لا تضعف  أبدًا ولا ترضى بالهزيمة على الإطلاق وكدهون، وعلى نقيض أبلة حكمت المربية الفاضلة صاحبة الرسالة التعليمية يطلق علينا فجأة وبدون تمهيد شخصية فضة المعداوى التى تمثل كل ما هو جاهل وقبيح وعشوائى بمنتهى الفجاجة، حيث نجد حربها هذه المرة على الجمال والرقى والتاريخ وكأنها تنتقم من شىء ما فى ماضيها يجعلها تكره كل شىء عريق وعظيم حتى إنها لا تتوانى فى هدم مبنى تاريخى كى تبنى مكانه أبراجها الطائرة فى سماء الإسكندرية الجميلة وكدهون، نجد أيضًا ثلاث شخصيات درامية فى عالم عكاشة لعبتها آثار الحكيم على التوالى دكتورة هند فى «الحب وأشياء أخرى» وزهرة «ليالى الحلمية» وعايدة «زيزينيا» لكل شخصية منهن ملامحها الخاصة جدًا وخلفيتها الاجتماعية والثقافية والاجتماعية المختلفة، ولكنهن تجمعهن جميعًا القوة والسيطرة، ففى «الحب وأشياء أخرى» نرى دكتورة هند منذ اللحظة الأولى تتحدى أسرتها ووالدها الطبيب الشهير وتقرر الزواج ممن اختاره قلبها غير مبالية بالفوارق الاجتماعية والاقتصادية بينهما، بل تقرر بمنتهى الحسم أن تنتقل معه من منزل والدها الثرى إلى حيث يُقيم فى شقة متواضعة بإحدى حوارى القلعة، ولا تقف عند ذلك فعندما يخيرها والدها بين الثروة والارتباط بخليلها تضحى بمنتهى البساطة بالثروة وتقرر أن تبدأ من الصفر وتفتتح مستوصفًا فى الحارة الشعبية، حيث تُقيم مع حبيبها، وعندما يعتدى عليها حبيبها بـ«القلم» تقرر بلا رجعة الانفصال عنه، هكذا هن نساء عكاشة، وتأتى زهرة فى «ليالى الحلمية» كيان مختلف أخذ شيئًا من كل شىء وصنع أسطورتها بمفردها وبهدوء دون أن يشعر بقوتها أقرب المقربين لها وتتعمد السيطرة على حبيب عمرها على البدرى حتى إنه يضحى بمنحة دراسية بالخارج حتى يبقى بجوارها ويتغاضى عن تصرفات عديدة منها حتى يحتفظ بمحبتها إلى أن يفاجأ بها تتزوج سرًا من رئيس التحرير المتزوج والذى يتيح لها فرصًا ويختصر لها طريق النجاح والشهرة، وهى فى المقابل ضحت بحب عمرها بمنتهى البساطة وبدون تردد وفى لحظة تزوجت من رئيس التحرير. هذا دون موافقة أبيها، وكدهون، عالم أسامة أنور عكاشة يضم العديد من الشخصيات النسائية المختلفة فى الشكل والمظهر وإن احتفظن جميعًا بقوتهن وقدرتهن على تغليب العقل على القلب إذا لزم الأمر، وهكذا عاشت تلك الشخصيات فى وجدان المصريين حتى يومنا هذا نتذكر نازك السلحدار وسماسم العالمة وأبلة حكمت وزهرة وعايدة وفضة المعداوى وكدهون فى محبة عالم أسامة أنور عكاشة.