الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. وعجبى عليك يا جاهين المولد وصاحبه حاضر"4"

كدهوّن!.. وعجبى عليك يا جاهين المولد وصاحبه حاضر"4"

من أجمل ما كتب فى الأعمال الوطنية المفعمة بنبض وروح الشخصية المصرية الثرية فى تنوعها وتناقضها هى كتاباته لأوبريت (الليلة الكبيرة) وليس الأغانى الوطنية ذات الطابع السياسى المباشر، ورغم جماهيريتها الكبيرة فى وقتها؛ فإن (الليلة الكبيرة) لها سحر خاص فى نفوس المصريين؛ لأنها بحق مرآة لحياتهم البسيطة بفنهم وخفة ظلهم ومكرهم الساذج فى بعض الأحيان وحبهم للحياة وأملهم فى الجنة وعشقهم لفكرة الدين فى حد ذاتها كنوع من الخلاص والتعويض لكل الإحباطات اللى تقابلهم فى الحياة، فالمصرى مزيج ثرى وخصب ومتنوع يجمع الماضى بالحاضر ويخلط العادات والتقاليد بالدين ويسخر من همومه بنكته ويجسّد معاناته فى عمل فنى بسيط تجده فى موال صعيدى حزين أو غنوة فلاحين أو رقصة غازية فى مولد له طابع. 



 

طابع دينى الأساس، ولكن المصريين بفطرتهم صنعوا من المولد حياة تنبض بالبهجة والفرحة والأمل، وكدهون.. دخل صلاح جاهين إلى الشمخ الجوانى كما يقول الصعايدة ومسح كل شبر فى أرض المحروسة من شرقها لغربها حتى يستطيع أن يخرج بمثل هذا العمل الجامع الشامل الفريد فى وصف حالة مصرية جدًا، ولأنه شاعر ورسام فقد استطاع أن يمزج الموهبتين فى عمل واحد متفرد فى خصوصيته وروعته وكأنه بذلك العمل أراد أن يضع يده على الهوية المصرية فى أبهى معانيها وأجمل صورها، فقد تمكن من رسم وجوه المصريين فى أشعاره «دول فلاحين ودول صعايدة دول م القنال ودول رشايدة» فبدت الوجوه تنطق بحال أصحابها داخل المولد أو «الليلة الكبيرة والعالم كتيرة ماليين الشوادر يابا الريف والبنادر».. يصف المولد الشعبى بشكل رائع وممتع، وتبقى فى وجدان كل من شاهده كعادة صلاح جاهين فى كل أعماله الفنية والأدبية أثبت أنه صاحب المولد الحقيقى وبأنه مش غايب كما يقول المَثل ولكنه حاضر بكل وجدانه ومشاعره وأحاسيسه ومفرداته الحياتية وما التقطه من الشارع المصرى فى المدينة والريف والصعيد فتجده مدركًا لكل التفاصيل والعناصر التى شكّلت الشخصية المصرية والهوية المصرية التى تميزنا عن باقى دول العالم، وكدهون.. لقد وضع يده على أسباب تميز مصر بكل ثقافتها وحضارتها وتلقائية شعبها وتناقضاتها فى نفس الوقت فى هذا الأوبريت العجيب والمبهر فى صنعه، فهل توجد دولة فى العالم تبدع مهرجانًا فنيًا غنائيًا راقصًا حافلاً بالألعاب والمغامرات والإثارة والسرقات أيضًا وذلك بمناسبة ذكرى دينية جدًا؟ كيف فعلها هذا الشعب الجميل ويقرر بدون قرار أن يحتفل بالدنيا والدين فى نفس اللحظة فيصلى ويذكر ثم يخرج يلعب ويرقص أو على الأقل يشاهد الراقصة التى غالبًا تعتبر المولد موسمًا للرزق والعمل وجمع الغَلّة التى تسندها لباقى السَّنَة، وكذلك الباعة المتجولين والقادمين من القرى وأقاصى الصعيد لحضور مولد السيدة أو الحسين والبقاء أيام وليالى المولد داخل هذه الاحتفالية الشعبية الفريدة فى تفردها وتناقضاتها وثرائها الشعبى وتنوعها، فالمصرى يذهب للذكر والغناء والصلاة والشراء والزهد واللعب والصيام والطعام مزيج مبهر يرصده «جاهين» فكتب يقول ؛؛:؛ و.. «اسعى اسعى اسعى اسعى مصوراتى: خدلك صورة ستة فى تسعة.. اسعى اسعى اسعى اسعى مصوراتى: خدلك صورة ستة فى تسعة.. اسعى.. اسعى.. اسعى اسعى اسعى اسعى القهوجى: ياسى عجورة النار خسعه

الله... الله... الله…

بائع: عجمية 

الله... الله... الله…

بائع: باللوز

الله... الله... الله…

بائع: طعمية

الله... الله... الله…

أراجوز

الله.... الله... الله... الله... 

وهكذا وضع صلاح جاهين يده على الهوية المصرية فى أجمل صورها فهو شعب يحب الحياة ويقدس الآخرة.. فيكتب «جاهين» عن هذه الحالة الصوفية ويقول: «قبة سيدنا الولى دول نوروها.. ما أحلى البيارق والناس بيزوروها.. قبة سيدنا الولى فى الجَوّ عالية.. ما أحلى البيارق لمّا نوروها».. وفى نفس الوقت يدرك «جاهين» بحسه الكاريكاتيرى مناطق السخرية فى المولد وسلوك البشر المتناقض مع الحدث الرئيسى وزيارة صاحب المقام والصلاة داخل مسجده، ولكنه فور أن يخرج للشارع يتحول لشخص آخر يبحث عن المتعة البريئة أو الفرجة وسط الزحام والباعة المتجولين.. ولا ينسى «جاهين» صاحب المولد أن يُذكرنا بالأراجوز كأحد عناصر البهجة فى الليلة الكبيرة وصانع الألعاب والضحكات بين العامة والبسطاء فيتخيل «جاهين» حوارًا غاية فى المتعة وخفة الظل بين شخصية همزة من الأرياف يستفسر عن عنوان من الأراجوزة فيتوهج الحوار بينهما فى سلاسة شديدة فيقول جاهين: «العمدة:

ياحضرة الأراجوز قول لى.

الأراجوز: نعم ياعمدة عاوز إيه.

العمدة: منين يروحوا لمتولى؟

الأراجوز: امدح نبينا وصلى عليه.

العمدة: اللهم صلى عليه.

الأراجوز: تمشى كده على طول على طول.. لحد ما تلاقى عمارة.

العمدة: لحد ما ألاقى عمارة.

الأراجوز: تدخل يمين تلقى بتاع فول.. دكانته على ناصيه حارة.

العمدة: دكانته على ناصيه حارة.

الأراجوز: تدخل يمينك فى شمالك.. شارعين وفى التالت تكسر..

العمدة: شارعين وفى التالت أكسر.

الأراجوز: على اليمين واخد بالك... وتمشى على طول تتمخطر.

العمدة: وامشى على طول واتمخطر!

الأراجوز: تفضل كذا تمشى وتدب.. وتخش من مَطرح ما طلعت.

العمدة: وأخش من مطرح ما طلعت.

الأراجوز: ولما تلقى مقلة لب.

العمدة: ولما ألقى مقلة لب.

الأراجوز: تعرف بأنك تهت وضعت!

العمدة: دى وصفة سهلة، دى وصفة هايلة.

وكدهون يستمر «جاهين» فى رسم مظاهر الليلة الكبيرة لمن لا يعرفها ولم يحضرها أو يسمع عنها فى حياته فيبدع «جاهين» فى رسمها بمنتهى الدقة والوضوح حتى تكاد أن تراها وتسمع صوتها كأنك تسير بداخلها أو كواحد من ضيوف الحسين والسيدة زينب كما يقول أصحاب الحى كنوع من كرم الضيافة لديهم من القادمين هم ضيوف صاحب المقام ويجب على أهل الحى خدمتهم ورعايتهم طوال فترة المولد لأنهم ضيوف صاحب المقام.. وهكذا نجد المصرى البسيط ودودًا بطبعه مضيافًا وكريمًا ومحبًا للغرباء وأصحاب السبيل ومصدقًا فى كرامات صاحب المقام.. فيكتب «جاهين» معبرًا عن الشخصية المصرية فيقول: «ناس من بلدنا هناك أهم.. روح يا إبراهيم انده لهم.

سلامات سلامات سلامات.. سلامات ع البلديات.

المنشد: ليلتكوا أنس وجلجلة.. انشد ولعلع يا وله.. شفت ف منام صاحب المقام.. ده أبهة. المجموعة: ده أبهة. المنشد: ويمامة حايمة عليه تسبّح ربها. المجموعة: يا نور النبى..يا نور النبى. المنشد: ميلت فوق يده وجيت أحبها. المجموعة: أحبها. المنشد: صحونى م النوم خدت بعضى وتنّى جَى. المجموعة: ... تنَى جى. وبعودة وبعودة وبعودة.. وبعودة.. الجميع : الله حى.

فلاح: دى الحضرة والذكر انجلى. ياللا بنا نذكر يا وله.

وتستمر الرحلة ما بين السيرك المنصوب بجوار المقام وانبهار الكبار قبل الصغار بالألعاب والأراجوز والساحر حتى نصل إلى الفقرة المثيرة فى الليلة الكبيرة وهى الغازية أو الراقصة الشعبية صاحبة الشخصية المحبوبة والمرفوضة فى نفس الوقت؛ حيث اعتاد المصريون على عشق الرقص الشرقى واحتقار الراقصة ذات نفسها رغم حرصهم على مشاهدتها فى الموالد وإحضارها فى أفراح أولادهم كأحد عناصر السعادة والإثارة، فلا مخرج من مولد جاهين قبل أن نرى ونسمع الراقصة تتمايل فى أنوثة شعبية ساخنة ترسل صهدها فى وجوه المارة؛ وبخاصة الرجال المحرومين من هذا السحر الأنثوى، فنراها تتلوى بخصرها الممتلئ وتقول: الغازية: «طار فى الهوا شاشى وأنت ما تدراش. طرفه شاورى عليك، حكم الهوا ماش. حكم الهوا ماش. هوا العصارى. يا واد، على سطح دارى يا واد. خدنى ورمانى رمانى عليك ولا أنت دارى. آهين يا نار..منك يا جار.. خدنى ورمانى رمانى عليك هوا العصارى».

ولا تستمر الليلة هكذا ما بين الصلاة والوعظ والفرحة والسعادة وفرحة فلا بُدّ أن يأتى القدر بما هو صادم وغير متوقع دائمًا فلا تنتهى الليلة قبل أن تفجّر مفاجآتها بسبب الزحام الشديد والانشغال بالفرجة والبيع والشراء وخلافه دائمًا ما يضيع الأطفال الصغار من يد أمهاتهم.. يرصد «جاهين» ذلك موقف درامى لأم ثكلى تبحث عن ابنها المفقود وسط الزحام فتبكى بلسان جاهين فتقول بنداء يمزق القلوب: سيدة: «يا ولاد الحلال بنت تايهة طول كده رَِجْلها الشمال فيها خلخال زى ده.

رجل: زحمة يا ولداه. كام عيل تاه.

ولكن «جاهين» يدرك بمنتهى الذكاء والوعى أن الليلة الكبيرة لا يجب أن تتوقف أمام تلك المواقف الحزينة الصادمة فيعود سريعًا لغناء المجموعة المبتهجة وكأن لسان حالهم يقول هكذا الحياة لا تستمر على وتيرة واحدة، ولكنها مزيج بين الفرح والحزن واللقاء والوداع.

وكدهون.. «الليلة الكبيرة» تجسيد حى نابض بالحياة والحركة والصوت؛ فقد استطاعت «الليلة الكبيرة» أن تبلور كل مواهب «جاهين» فى عمل فنّى واحد يجمع الشعر والأغانى بالدراما وبناء شخصيات درامية واضحة المعالم ولكل شخصية لسان حالها الذى يكشف عن جذورها وهويتها، بالإضافة لحسّه الكاريكاتيرى تجاه المواقف والشخصيات؛ فقد ظهرت بوضوع مع الزباين الهاربين من حساب القهوة.

يصف المولد الشعبى بشكل رائع وممتع، من خلال شخصيات: (الأراجوز- بائع الحمص - بائع البخت - القهوجى- المُعَلم - العمدة- الراقصة- مدرب الأسُود- الأطفال- المصوراتى- معلن السيرك- المنشد- الفلاح). ولا تنسنى بالطبع شريك جاهين فى الليلة الكبيرة صاحب المقام الموسيقى العالى والمزاج الشعبى الرايق الموسيقار سيد مكاوى الذى وضع ألحانًا تشبه فعلاً أصوات الباعة المتجولين فى الأحياء الشعبية والتى كادت تنقرض فعلاً من شوارعنا، ولكن الثنائى الاستثنائى «جاهين» و«مكاوى» تمكنا من رصد وتسجيل تلك الحالة المصرية الفريدة وبلورتها فى عمل فنّى ممتع يعيش فى وجدان المصريين حتى يومنا هذا وإلى الأبد، وكدهون.. فى مَحبة صاحب المولد الحاضر الغائب صلاح جاهين، وألف سلام وتحية لروحه المُحبة المُبدعة.