الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. عجبى عليك يا جاهين هو والأغانى الوطنية "3"

كدهوّن!.. عجبى عليك يا جاهين هو والأغانى الوطنية "3"

على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء    أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء



باحبـها وهـى مالكـة الأرض شــرق وغــرب    وباحبها وهى مرمية جريحة حرب

باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء    واكرهها والعن أبوها بعشق زى الداء

وأسيبها واطفش فى درب وتبقى هيا ف درب    وتلتفت تلقينى جنبها فى الكرب

والنبض ينفض عروقى بألف نغمة وضرب

.. هكذا لخص جاهين علاقة المصرى بوطنه عبر رحلته فى الزمان والمكان فتحولت القصيدة والأغنية الوطنية معه لحكاية حب وولع وعشق وخصام وخناق وصلح ومحبة وانسجام وأحلام ووعود وعهود وأمل فى مستقبل مشرق قادم بثبات وثقة نحو محبوبته مصر، يلبسها ثوب الفرحة والنصر بعد شقاء وكفاح سنوات طويلة رصدت خلالها العديد من الأحداث والمتغيرات السياسية والاجتماعية وانتصارات وهزائم وأحلام وإحباطات، ويأتى من يأتى ويذهب من يذهب وتبقى مصر عند المصريين أحب وأجمل الأشياء كما أكد لنا صلاح جاهين فى قصيدته.

الأغنية الوطنية سلاح جبار لا يستهان به فى تشكيل وعى وعاطفة الشعوب وأصدق وأدق تأريخ يجسد نبض الشارع المصرى ويمكن لأى باحث فى التاريخ أن يعرف من خلالها طبيعة الواقع المصرى والمزاج الشعبى ومدى حماس أو فتور الشعب للمتغيرات السياسية والاجتماعية فى كل مرحلة تاريخية كما حدث مع ثورة 19، حيث لعبت الأغنية الوطنية دورًا كبيرًَا فى تعبئة الشعور الوطنى وتوحيد الصفوف ضد المحتل الإنجليزى فى ذلك الوقت، كما لعبت الأغنية الوطنية دائمًا دورًا مهمًا فى بث الحماس فى نفوس المصريين وروح المقاومة وتأصيل حب الوطن، ومع الوقت اختفت الأغانى التى حاولت تزييف الواقع وبقيت فقط تلك الأغانى التى عبرت بصدق وأمانة عما يجيش به الشارع المصرى من انفعالات وأحاسيس تجاه وطنه وأهله وناسه،  لم يكن هناك صوت يعلو على صوت الأغانى الوطنية التى قدمها الثلاثى الاستثنائى صلاح جاهين وكمال الطويل وعبدالحليم حافظ فى مرحلة الستينيات من القرن الماضى، وما أدراك ما هى مرحلة الستينيات ومدى تأثيرها فى حياة المصريين وأحلامهم ومستقبلهم مما جعلهم يرتبطون بشدة بأغانى حليم والطويل وجاهين الوطنية، ولم لا وهى تجسد لهم الأمل والثقة والقوة فى مسيرة شعب يبحث عن ذاته ووجدها فى كتابات صلاح جاهين بشكل خاص لما تحمله من معانى عميقة فى قالب بسيط يدخل قلوب البسطاء ويسعد بها المثقفون ويصدقها العامة وتداعب أحلامهم العريضة فى غد مشرق مدعم بقوة إيمانهم بالثورة وبناصر شخصيًا وكدهون، لم يكن صلاح جاهين منافقًا للسلطة ولا شاعرًا يسعى للشهرة أو للمال ولكنه كان مجرد مواطن مصرى أمن بثورة يوليو وبأفكارها ومبادئها، كان يراها تعبيرًا عن أحلامه الشخصية فى مستقبل ينصف فيه الفلاح والعامل والإنسان البسيط، لقد آمن بتلك المبادئ وترجمها فى أغنيات رائعة صدقها المصريون وهتفوا معه لأنها كانت تعبر تعبيرًا صادقًا عن تطلعاتهم فى تلك اللحظة التاريخية، فرددوها وحفظوها عن ظهر قلب وكأنها دستور شعبى كتب بقلم شاعر العامية صلاح جاهين كأغنيات: «إحنا الشعب» و«المسئولية» و«إنذار» و«بالأحضان» و«بستان الاشتراكية» و«صورة» و«نشيد ناصر»، وكدهون كتب جاهين سعيدًا ببناء السد العالى وبقوة إرادة شعب يتحدى العالم كله فى لحظة تاريخية، وكتب أيضًا أغانى تعبر عن كل الأفكار الكبرى التى كان يرددها هذا الجيل وأثرت فى واقعهم، مع هذا الثلاثى جاهين والطويل وحليم تحولت الأغنية الوطنية التقليدية من أناشيد جافة وكلمات مجوفة خالية من الروح والإحساس إلى فرحة الفلاحين وسعادة العمال وحماس الشباب وأمل شعب يحلم بواقع جديد ينعم فيه بالحرية والعدل والرفاهية والعزة والكرامة وكدهون، وهذا هو الخيط الذى لمسه صلاح جاهين فى البداية وقبل أن يبدأ مشروعه فى تأليف ديوان شعر يصف مشاعره تجاه ما يحدث فى وطنه فى ذلك الوقت وحماسه لرياح التغيير التى تحدث عنها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وصدقها صلاح جاهين وجسدها فى أغانى وطنية تنبض بالحياة والأمل والحماس لما هو قادم لخير الأمة بما دفع العندليب بذكائه الفطرى إلى التقاط ذلك الديوان الذى كتبه جاهين ويختار أن يغنى أشعاره ويسند مهمة التلحين للموسيقار كمال الطويل لتبدأ الملحمة، يقول جاهين أنه لم يكن يحب الأغانى الوطنية التى تقدم لأنها كانت أشبه بنشيد مدرسى بإيقاع عسكرى باستثناء أغانى سيد درويش الوطنية التى كانت تعبر عن عصره وعن أحلام وآمال الشعب المصرى فى تلك الفترة التى أعقبت ثورة 19، كنت أريد أن أحول القصيدة الوطنية لأغنية ذاتية يعبر بها الشاعر عن ذاته وما يدور بوجدانه وأحلامه الشخصية فقررت أن أكتب أغانى وطنية تشبه أغانى الفلاحين والعمال فى بهجتها وصخبها كأغانى جنى القطن أو جمع المحصول والعمال بإنتاجهم. فكتبت أغانى وطنية بها بهجة وفرحة تعبر عن تلك الطبقات التى لم تكن مطروحة قبل الثورة حيث كانت الموسيقى السائدة وقتها لارضاء طبقة معينة من دون باقى طبقات الشعب، وكتبت ديوانين قرأهما عبدالحليم حافظ وطلب منى أن يغنى أغنية من ديوانى واختار إحنا الشعب وأسند تلحينها لكمال الطويل عام 56 احتفالًا بانتخاب الرئيس جمال عبدالناصر وقال جاهين: 

إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب

مبروك ع الشعب خلاص السعد هيبقى نصيبه

احنا حياتك وابتساماتك وانت حياتنا

إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب

يا اللى بتسهر لاجل ما تظهر شمس هنانا

إحنا جنودك إيدنا ف إيدك مصر أمانة

بكرة وطنا هيصبح جنة وانت معانا

بكرة يا بكرة مشتاق نظرة لسحر جمالك

بكرة بطلنا بجهد عملنا يحيى آمالك

وإحنا اخترناك وهنمشى وراك.

 ونلاحظ إصرار جاهين على تكرار كلمة بكرة متغيرًا حيًا فى قلبه النابض حماسة وثقة على أن القادم أفضل والمستقبل مشرق، بكرة وطنا هيصبح جنة، بكرة مشتاق لنظرة سحر، بكرة وطنا بجهد عملنا يحيى آمالك، ثم يعود يؤكد على فتح باب الحرية كحق شرعى ومشروع لكل مواطن مصرى، ويستمر صلاح جاهين فى تصدير الحلم والأمل ويبشر بمستقبل آخر يستوعب الجميع فيكتب صورة أقرب للوحة المرسومة منها للشعر، فرسم نماذج عديدة تساهم فى بناء المجتمع المصرى كما يتمناه ويتخيله فيقدم:

صورة صورة صورة.. كلنا كده عايزين صورة

صورة للشعب الفرحان.. تحت الراية المنصورة

يا زمان صورنا يا زمان.. ح نقرب من بعض كمان

واللى ح يبعد م الميدان.. عمره ما ح يبان فى الصورة  

على مدد الشوف مدنة ومدنة.. دى لصلاتنا ودى لجهادنا

مدخنة قايدة قلوب حسادنا.. تحتها صلب كأنه عنادنا

وقدامه من أغلى ولادنا.. عامل ومهندس عرقان

شباب والشباب فى بلدنا.. فى الصورة فى أهم مكان.

وأساتذة وعلما ومعامل.. ودكاترة من الشعب العامل

ورجال سكر على مكاتبها.. تخدم بالروح لما تعامل

والصورة مافيهاش الخامل.. والهامل واجبة ونعسان

مافيهاش إلا الثورى الكامل.. المصرى العربى الإنسان

نلاحظ أن جاهين قد أدخل مصطلحات سياسية جديدة وغريبة على الأغنية المصرية، وأذن المواطن المصرى البسيط، وكأنه يقصد بذلك تنمية وعيه وتربية إحساسه الوطنى على تلك المفاهيم مثل «بستان الاشتراكية والميدان والميثاق والثورى الكامل المصرى العربى الإنسان المسئولية» و«إنذار» و«بالأحضان»  و«صورة» و«نشيد ناصر»، يستمر صلاح جاهين فى رسم صورة حماسية مشبعة بالإصرار على النجاح والتقدم بجهد وكفاح المصريين وحلمهم بمستقبل مشرق، ويلحن كمال الطويل ويغنى عبدالحليم حافظ فيلهب حماس الشعب وتتحول الأغنية الوطنية معهم إلى سلاح فتاك يساهم فى حشد الهمم وبناء الثقة وزرع الأمل فتصدقهم الجماهير الغزيرة ويرددونها وكأنها دستور شعبى يتفق عليه الجميع بدون قرار أو قانون.

وكان لابد أن تغنى الست أم كلثوم أيضًا من أشعاره أكثر من أغنية وطنية، فقدمت معه من ألحان رياض السنباطى:

(ثوار) ويقول مطلعها: 

ننهض فى كل صباح بحلم جديد

ثوار نعيدك يا انتصار ونزيد

وطول ما إيد شعب العرب بالإيد

الثورة قايمة والكفاح دوار 

وأغنية لحنها محمد الموجى هى «فرحة القنال» بعد قرار تأميم قناة السويس، وأغنية لحنها كمال الطويل، والله زمان يا سلاحى. والتى تحولت بعد ذلك للنشيد القومى المصرى لسنوات عديدة قبل أن يصبح نشيد «بلادى بلادى» بعد معاهدة كامب ديفيد، حتى أنه كتب أغنية «راجعين بقوة السلاح» ولحنها رياض السنباطى لتغنيها أم كلثوم عشية هزيمة الخامس من يونيو 1967، وفى اليوم التالى جاءت النكسة على نقيض مروع من الأمل الذى تحمله كلمات الأغنية.

 لم يحتمل قلب جاهين المثقل كل هذا الألم بعد النكسة وهزيمة 67، فدخل فى حالة اكتئاب رافقته حتى مماته، فقد اعتبر نفسه أحد المسئولين عن خداع المصريين بأغانيه الوطنية المفعمة بالحماس والأمل والوعد بالنصر القريب وعودة الحق المسلوب، وفى نشوة الأحلام والآمال يفيق على صوت النكسة تقتل بداخله الفرحة والبهجة إلى الأبد، وإن ظل يصدرها للمصريين بعد ذلك عبر صوت سعاد حسنى بعيدًا عن الأغانى الوطنية وكدهون، إلا أنه عاد فكتب عام 1972 أغنية أخرى بديعة للفنانة شادية ولحنها الموجى يقول:

الأولة مصر

عالية فى المقام بينّا

وحسنها آية

والتانية مصر

هى الأصل والآنة

والقصد والغاية

والتالتة مصر

هى الفضل والمنة

والدنيا نسّاية

قول يابا ويايا ويايا

الأولة مصر

الأولة والتانية والتالتة مصر

والرابعة والخامسة والسادسة مصر

طول الزمان وفى كل آن

نادى المنادى مع الأدان

الأولة آه مصر 

وكدهون فى محبة صلاح جاهين ألف سلام لروحه.