الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. الكروان الحزين.. فايزة أحمد "2"

كدهوّن!.. الكروان الحزين.. فايزة أحمد "2"

استكمالاً لرحلة بحثى فى شرائط الكاسيت القديمة المتناثرة بمنزل والدى وبخاصة شرائط الست فايزة أحمد بشكل خاص بعد أن اكتشفت أغانى رائعة عديدة سقطت عن عمد أو إهمال من ذاكرة الجيل الجديد وربما القديم أيضًا مما دفعنى للكتابة عنها مرة أخرى ربما يشاركنى القراء متعة إعادة اكتشاف فايزة أحمد مرة أخرى سيدة الإحساس الشجى، ذلك الصوت الساحر وقادر ونادر وفريد فى رنته المجسمة والمعزول بكل زخارف الغناء العربى التى تنطلق بتلقائية ودون افتعال وليس لاستعراض قدرات صوتها الجبار الأقرب لرتنيمات الكروان وكدهون اندهشت جدًا عندما وقع نظرى على قصيدة (لا تدخلى) التى غنتها فايزة أحمد من ألحان رفيق دربها محمد سلطان عن شعر نزار قبانى (رسالة من امرأة حاقدة) وتساءلت: لماذا تقرر مطربة غناء تلك القصيدة بالذات رغم ما بها من قسوة ومعاناة وهزيمة عاطفية ونفسية؟



 كيف يمكن لمطربة مهما بلغت من موهبة أن تستطيع غناء تلك القصيدة الموجعة لأى امرأة عاشقة تجد نفسها تقف على باب حبيبها ويرفض دخولها لأن حبيبته الجديدة بالداخل خاصة أنها قصيدة لا تصلح للغناء أساسًا لقسوة مشاعرها وصعوبة مفرداتها، ولكن هاهى فايزة أحمد تفعلها وتتقمص مشاعر تلك المرأة المذبوحة وكأنها ممثلة محترفة تقف على مسرح الحياة تحكى موقفًا دراميًا مريرًا وفى غاية فى التعقيد فترسل رسالتها الأخيرة لحبيبها الندل كما أطلق عليه نزار قبانى فى قصيدته وتخبره بكل كرامتها المجروحة أنها لا تبكى منه لا تبكى عليه وتصرخ فى صمت فتقول:… من وقفتُ دمى عليك

وذللتنى..

ودعوت سيدةً إليك

ونسيتنى..

من بعد ما كنت الضياء بناظريك

أنا لست آسفة عليك..

لكن على قلبى الوفىّ

قلبى الذى لم تعرفِ..

يا من على جسر الدموع تركتنى

أنا لست أبكى منك

بل ابكى عليك.. وكدهون باللهِ ما كل هذا الألم الممتع كيف استطاعت هذه الفائزة أن تعتصر قلبها وتحتجزه فى حنجرتها وأن تسيطر على دموع صوتها الحنون لتظل حبيسة بداخلها   دون أن تسمح لها بالسقوط أمام جمهورها المنتشى من روعة الأداء والتمكن فى بساطة وهدوء تحسدها عليه كل مطربات زمانها وكل الأزمنة التالية على سلاسة نطقها لكلمات القصيدة صعبة النطق مثل (وشوشتنى) و(أذللتنى) وكدهون كيف أتت هذه الفائزة  ما كل تلك المقدرة على توظيف حنجرتها للتعبير عن ذلك الموقف الدرامى الموجع مع الاحتفاظ برقة مشاعرها وحلاوة نبراتها التى تعدك للمزيد من المتعة والطرب لهذا الصوت الاستثنائى الذى يجمع فى طياته كل المتناقضات فيمزج القوة بالشجن والرقة بالجبروت وقسوة الملامح بعذوبة الأحاسيس ولا يخفى على أحد أن اختيار تلك القصيدة المربكة للغناء يعكس حالة المجتمع ومدى تقبله لتلك التجارب الفنية عندما تقرر مطربة تتمتع بجماهيرية كبيرة أن تغنى قصيدة مثل رسالة من امرأة حاقدة وتجد تجاوبًا كبيرًا من الجمهور العادى الذى اعتاد حضور حفلات العامة وليس جمهور الأوبرا مثلاً ويصفق لها ويردد كلماتها بمنتهى السهولة ولا يمكن أن ننسى تلك القصائد الرائعة التى قدمتها الست أم كلثوم مثل: أراك عصى الدمع والأطلال وأغدًا ألقاك، وتجارب نجاة الناجحة فى تقديم القصائد الغنائية مثل: أيظن ولا تكذبى وماذا أقول له إن جاء يسألنى، وللأسف فقدنا الآن ذلك الجمهور الذى كان يستوعب القصيدة المغنّاة ويصفق لها ويردد كلماتها فى يسر وبساطة بعد أن تمكنت أغانى المهرجانات والعشوائيات الغنائية وكدهون، لعل تجربة فايزة أحمد فى إعادة أغنية الموسيقار عبدالوهاب قالوا لى هان الود عليه ونسيت وبات قلبك وحدانى.. أن تقع فى مصيدة تقليد عبدالوهاب، ولكنها على العكس أضافت لروعة اللحن إبداعها الخاص حتى اعتقد البعض أنها أغنية خاصة بصوت فايزة أحمد وتتكرر نفس الحالة غير المقصودة وتجد نفسها تدخل فى منافسة مع صوت عبدالحليم حافظ عندما قرر أن يغنى أغنية: أسمر يا اسمرانى بعد أن غنتها فايزة أحمد إلا أن الأغنية استقرت فى وجدان الجمهور بصوت فايزة أكثر من كونها أغنية عبدالحليم حافظ أو هذا انطباعى الشخصى عن تلك الأغنية أستمتع بها أكثر بصوت فايزة أحمد، وكدهون صوتها الشجى الحزين يأخذنا معه فى دوامة لا تنتهى من شوق العاشق ولهفتك على الحبيب فينطلق صوتها بهمس أقرب من النحيب عندما تردد بصوت باكى يحرص على البقاء الصمود حتى تأتى كلمة قد يرسلها الحبيب الغائب بدون سؤال فتصيح: دوبنى دوب ياهوى دوبنى دوب يا ما قلت اتوب يا هوى ما اقدرت اتوب لاالصبر ينفع ولاشوق بيشفع ولا حد يعرف إيه فى القلوب غابوا الحبايب يومين يادوب وكل يوم عن يوم عنهم بدوب، المدهش فى صوت فايزة أحمد قدرته على تحويل الكلمة لموقف درامى تشعر بآلامه وأحزانه وتتخيل شكل الحبيب الغائب وكأنها مخرج يجيد تصوير لقطاته السينمائية بكاميرا شديدة الخصوصية، وهذا ما يفعله دائما صوت فايزة مع جمهورها، وكدهون الست فايزة أحمد حكاية جميلة حدثت فى حياة المصريين فى هدوء وعلى استحياء ثم انطلقت بعيدًا عن الجميع تعزف نغمة مختلفة عن جميع المطربات لتحلق فى سماء القاهرة ومنها انطلق فى سماء كل الدول العربية.. الست فايزة أحمد فى يوم ما قالت أغنيتها المعجونة بطعم النيل (يا اخد حبيبى يانا ياما اخد حبيبى يا بلاش زارع فى قلبى وردة والنبى ما تقطفهاش) من كلمات عبدالرحمن الأبنودى وألحان محمد سلطان أصابت جيلاً بأكمله بحالة من اللوثة العاطفية وصارت كل الفتيات المصريات فى ذلك الوقت يتغنين بهذه الأغنية الفريدة فى جمالها وبساطتها ومصريتها (يغنوها سواء كان هناك حبيب أو لا يوجد) فقد كانت تعبر عن روح الفتيات المصريات البسيطات وما يميزهن من براءة ممزوجة بدلال وفطرتهن المحبة للحب ذات نفسه وأدتها الست فايزة القادمة من بلاد الشام فى بساطة وإحساس جميل يأخذ العقل بعيد ويترك مساحة كبيرة لأحكام القلب وكدهون ولا تتركنا الست فايزة نهدأ فتصيح فى دلال مغلف بالوقار (ومادام معاى اللى بحبه وبريده مادام معاى

وبنقسم اللقمة ونضحك وبنشرب شاى

ميهمنيش مهما قالوا

ماهو دول عوازلى وعزالوا

بيقولوا داير على حالو مع اٍنه كان فى الساعة

دى قاعد معاى قاعد معاى قاعد معاى معاى).

ويبدع الشاعر عبدالرحمن الأبنودى فى سرد حدوتته الشعبية وكأنه يصف مأزق فتاة مصرية فى موقف درامى تدافع عن حبيبها الذى طالته الشائعات وكدهون.. أن تلك الكتلة من الموهبة الربانية والإحساس الفنى النادر التى جاءت من سوريا الشقيقة لقاهرة المعز تحلم بالفن والشهرة والأضواء وبالتعاون مع المبدعين المصريين فكانت حالة ابداع نادرة مزجت المشاعر والأحاسيس السورية والمصرية فخلقت ظاهرة فايزة أحمد والتى أثرت فى الحياة الفنية العربية بلا جدال.

وكدهون فى محبة الست فايزة أحمد أشهر مظاليم الفن رغم تجربتها الفريدة فى إثراء المكتبة الغنائية المصرية فى إبداع مصرى جدًا لم نشعر معها أبدًا أنها مطربة سورية تغنى فى القاهرة، ولكنها مصرية قلبًا وقالبًا  وشكلت وجدان المستمع المصرى فى فترة من أهم وأخصب فترات الغناء المصرى.