الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. الكروان الحزين.. فايزة أحمد

كدهوّن!.. الكروان الحزين.. فايزة أحمد

قد يصعب على الأجيال الحالية تفهم فكرة وجود مكتبة شرائط كاسيت التى انتشرت فى بيوت المصريين فى تسعينيات القرن الماضى، خاصة بين الشباب الذى كان يحرص على اقتناء تلك الشرائط فور صدورها فى الأسواق لنجوم الغناء الشباب فى تلك الفترة كعمرو دياب ومحمد فؤاد، بالإضافة بالطبع لأغانى الكبار من أمثال أم كلثوم وعبدالحليم وشادية، وهذا بالإضافة لهواة التسجيلات من محطة الإذاعة مباشرة، حيث نقوم بشراء شرائط كاسيت فارغة ونقوم بالتسجيل عليها ما تيسر من أغانٍ أو موسيقى.



أحيانًا كان يحلو للبعض تسجيل بعض المسرحيات الكوميدية من باب الترفيه وكدهون ...تكاثرت شرائط الكاسيت فى تلك الفترة وانتشرت وتوغلت فى كل بيت حتى صرنا نتباهى بين أصدقائنا بأعداد الشرايط المسجلة التى نمتلكها وكدهون ،وكان كل فرد من أفراد أى أسرة لديه شرائطه الخاصة التى تحتوى على الأغانى العربية أو الأجنبية على حسب مزاجه الفنى، فقد كانت تلك الشرائط بمثابة استطلاع رأى جماهيرى فى مدى نجاح الأغنيات الحديثة والمطربين ذات أنفسهم حتى صارت إحدى أهم سمات فترة  التسعينيات من القرن الماضى وهى مكتبة تختلف بالطبع عن مكتبة شرايط الفيديو التى كان يمتلكها المحظوظون من رفقاء جيلى وتحتوى غالبًا على أفلام عربية وأجنبية، وكان شائعًا فى تلك الفترة أن تقدم بعض المجلات شرايط كاسيت أو فيديو كهدية مع العدد الصادر منها وإن كان الأغلب يستأجر شرائط الفيديو من نوادى الفيديو والتى اختفت هى الأخرى مع الوقت حتى سقطت من ذاكرة الجميع وكدهون ،وأتذكر أن أبى قد أعلن استياءه فجأة من فوضى تلك الشرائط المتناثرة فى كل أركان المنزل بشكل عشوائى فقرر أن يصنع مكتبة خشبية تستوعب كل تلك الشرايط ورصد ما تحتويه من أغانٍ ورصد كل ما تحتويه من مواد فنية مختلفة، حيث إنه اكتشف أن هناك بعض الشرائط عليها أغانٍ متكررة لأغنية واحدة دون أن ندرى، ولذلك كان الحل للسيطرة على كل هذه الفوضى غير الخلاقة هو جمعها داخل مكتبة خشبية كبيرة لاحتواء شرايط الكاسيت وأخرى للشرائط الفيديو وأخذ على عاتقه أن يقسمها لرفوف وكل رف باسم مطرب أو مطربة لسهولة حصر الشرائط والوصول إلى الأغنية المطلوبة بشكل يسير، وصرنا نرتب مكتبتنا الجديدة فى سعادة وهمة، وبالطبع كانت للست أم كلثوم السطوة فى عدد الشرائط، حيث امتلأ رف أم كلثوم عن آخره بجميع أغانيها منذ الصب فتح عيونه حتى أغنية يا مسهرنى، واكتشفنا أن لدينا ثلاثة شرائط لقصيدة الأطلال وشريطين مكررين لأغنية فى يوم و لليلة لوردة، وهكذا صرنا نرتب مكتبتنا بمنتهى الدقة والنظام وكأننا نموذج مصغر لمكتبة الأغانى فى الإذاعة المصرية حتى انتهينا تماما من رف أم كلثوم ورف عبدالوهاب ورف حليم ورف شادية وكدهون ،وبقيت عدة شرائط على استحياء لبعض المطربين المميزين، ولكننا لا نمتلك مجموعاتهم الغنائية الكاملة مثل نجاة وفايزة أحمد ومحمد فوزى وسعاد محمد فقررنا أن نخصص رفًا واحدًا لجمع كل هذه الشرائط  تحت بند شرائط متنوعة، بالإضافة لعدة فرق موسيقية زى فريق المصريين وفريق والجيتس وكدهون.

وقع فى يدى شريط كاسيت يضم أغانى قصيرة ذات إيقاع سريع وعصرى للمطربة فايزة أحمد مثل أغنية حبيتك وبدارى عليك وأغنية هدى الليل وأغنية شارع الهوى، مما أثار دهشتى فى ذلك الوقت بأن يكون لها مثل تلك الأغنيات العصرية جدا، فقد كان صوت فايزة أحمد مرتبطًا لدىّ بأغانى الأفلام الأبيض والأسود التى شاركت فى بطولتها فى بدايتها الفنية مثل أغانى فيلم تمر حنة مع رقصات الساحرة نعيمة عاكف وأغلبها من ألحان الموسيقار محمد الموجى الذى قدمها للجمهور المصرى لأول مرة فى عده أغانٍ حازت على نجاح جماهيرى غير مسبوق مثل أغنيتها الشهيرة «يا امه القمر على الباب» وأغنية «يا تمر حنة» وأغنيتها شديدة العذوبة (قلبى عليك يا خى من حر قولة أى)، بينما نشاهد على الشاشة الفنان رشدى أباظة يعانى بشدة وهو يزيح وشم فتاته من فوق صدرة بماء النار فكان صوتها الهادئ الحزين خير معبّر  عن ذلك الموقف الدرامى رغم أن أداءها التمثيلى كان ضعيفًا جدًا، ولكن صوتها طاغٍ وجعلنا نتغاضى عن ضعف موهبتها التمثيلية وكذلك تجربتها الرائعة فى فيلم «أنا بناتى» أمام الفنان زكى رستم، حيث غنت أغنيتها المبهجة جدا (بيت العز يا بيتنا على بابك عنبتنا) وكذلك أغنيتها (تعالى لى يا لا تعالى)، بينما نرى على الشاشة دموع الفنانة ناهد الشريف وكأن المخرجين استغلوا صوتها الشجىّ الأقرب للكمنجة كموسيقى تصويرية للمشاهد الدرامية بتلك الأفلام التى شاركت فيها، وربما أنها تلك الفترة باشتراكها فى فيلم «ليلى بنت الشاطئ»، مع الفنان محمد فوزى، حيث غنت أغنيتها البديعة (ليه يا قلبى ليه بتحلفنى ليه) وطبعًا لا أستطيع أن أعبر تلك المرحلة الفنية من حياتها دون أن أذكر أغنيتها الخالدة «ست الحبايب يا حبيبة» والتى تعتبر بحق هى النشيد القومى لعيد الأم حتى يومنا هذا لم تقترب منها أى أغنية أخرى تغنت بالأم وكدهون، واعتقدت بالخطأ أنها اختفت بعد ذلك من الساحة الفنية نظرًا لصغر سنى وربما لعدم وجود شرائط كثيرة لها فى منزل والدى الذى سيطر عليه أغانى أم كلثوم وعبدالحليم وشادية فدفعنى الفضول الطفولى للتعرف أكثر على أغانى فايزة أحمد الطويلة والتى أدتها على المسرح بعيدًا عن أفلام السينما فاخترت بشكل عشوائى أحد شرائطها وكانت بالمصادفة أغنية (لقيتك فين) من ألحان زوجها الموسيقار محمد سلطان وكانت تلك الأغنية بمثابة الاكتشاف التانى لفايزة أحمد بالنسبة لى كطفل صغير نسبيًا اتبهرت بحنية صوتها رغم قوته وسحر أدائها الذى يأخذك بعيدًا عن أرض الواقع لعالم مخملى مليئًا بالسحر والخيال والشجن حتى لو كانت تؤدى أغنية سعيدة يطل صوتها مغلفًا بالحزن وكدهون لم أعتد فى أغنية مصرية أن تحمل كل هذا القدر من الدعوة للتسامح والمحبة والاطمئنان وجبر خاطر المجروح واحتواء غيرة الغيران.. فتغنى فايزة بصوتها الشجى الحزين وكأنها تسرد قواعد جبر الخواطر الأربعون فتقول: اللى غايب هاته تانى.. واللى خاصم صالحه تانى عالى فايته من سنين.. اللى حيران طمنه.. واللى قاسى حننه واللى غيران هدى قلبه بكلمتين.

وكدهون كلمات جميلة جدًا لأغنية لقيتك فين تميزت بدعوتها المطلقة للتسامح على غير طبيعة الأغانى المصرية المشغولة بهجر الحبيب والعوازل اللى يفلفلوا وكدهون دخلت بقوة مغارة أغانى فايزة أحمد الممتلئة بأغانى وقصائد عديدة لراقت نظرى أغنيتها الرائعة حبيبى يا متغرب مع بليغ حمدى وعبدالرحيم منصور وتوقفت لاتبعت على قدرتها الفائقة على غناء الحروف وليس فقط الكلمات.. فايزة أحمد بتغنى حرف الحاء مش بس بتنطقه عندما تصيح بصوت مدبوح أقرب للنحيب (حبيبى) بتحولها من مجرد كلمة لأغنية كاملة مكتملة المعانى ويغلبها الشوق فتوسل لحبيبها الغائب هامسة: أنا عايزة أشرب من إيدك واتنهد مع تنهيدك سهرتنا سوا هتداوى جروحى واعذرنى أد ما تقدر أد عيونى عليك ما بتسهر أد ما بفكر فيك وستنظر أد الشوق إلى بيقتلنى (هو فى كلام ممكن يترجم إحساس المحروم المشتاق بالرقة دى) بليغ حمدى وعبدالرحيم منصور بيعيدوا صياغة المشاعر الإنسانية بالكلمة والموسيقى كدهون .. تعود فتغرد من ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب وكلمات حسين السيد أغنيتها وقدرت تهجر فتقول: كنت أشوف الورد بيفتح بحُب بين إيديا

كنت أقول ع الشمس بتروح تحب فى دنيا تانية

كانوا كل الناس عرايس لابسة حُب ورايحة جاية

كان ساعات الود ودى من هَنا الحُب اللى فيا

عايزة أفرق منه للدنيا عشان ده كتير على.. لا تعرف هل هى تبكى أم تضحك أم هو غناء أقرب للنحيب وكدهون تأتى النهاية سريعًا وقبل الأوان بكثير فتسمعها تردد مع الحان رفيق دربها محمد سلطان: أيوه تعتبت تعبت تعبت زى ما بتقول اتغيرت مش بيتحمل زى زمان لتغيب شمسها إلى الأبد وإن كانت ترفض الرحيل لنستمع بعد وفاتها لأغنيتها الرائعة: لا ياروح قلبى مش أنا إللى أحب وأنسى، ويشاء القدر أن يرحل ثلاثى أضلاع الأغنية قبل إذاعتها، كان عندنا شعر وموسيقى وطرب وسميعة اختفوا فى ظروف غامضة ونتجاهل تاريخهم الرائع وتشجيع الأصوات البلاستيكية يا منعم، فايزة أحمد صوت حنين رغم قوته تحسسك أن كلامها نفسه أغانى مافيش حزق ولا نفس مقطوع ولا أمان أمان وكدهون فى محبة الست فايزة أحمد أشهر مظاليم الفن فلم تكرم بعد وفاتها ولم يهتم أحد بجمع تراثها الغنائى الغزير أو يسلط الضوء على موهبتها الاستثنائية فى عالم الغناء والموسيقي حتى أطلق عليها كروان الشرق الحزين.