الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. عصفورة الجنة.. سلوى حجازى

كدهوّن!.. عصفورة الجنة.. سلوى حجازى

لا أزال أتذكر ذلك اليوم الحزين وكأنه حدث بالأمس.. فى نفس الموعد انتظرنا طلتها الساحرة كشهرزاد هذا الزمان تأتى عبر البلورة الصغيرة المسماة التليفزيون تروى حكايتها كل ليلة لتطير بنا على جناح الخيال لعالم مدهش جميل يشكل وجداننا ويهذب مشاعرنا.. جلسنا  أمام شاشة التليفزيون وعيوننا الصغيرة تتلهف لرؤية ماما سلوى بطلتها الهادئة وعيونها البريئة وصوتها الرقيق يهمس فى محبة وحنان «ازيكوا يا كتاكيت يا حلوين».



 

فترقص قلوبنا فرحا ونتأهب لسماع الحدوتة قبل أن نذهب إلى النوم  من خلال برنامجها (عصافير الجنة) ولكنها لم تحضر فى ذلك اليوم وطال الانتظار والترقب على أمل ظهورها بين لحظة وأخرى دون جدوى فخطر لى أنى لو غنيت أغنية البرنامج سوف تسمعنى وتحضر سريعا فبدأت أهمس بكلمات الأغنية. طير طير يا أمير العصافير.. طير طير يا أبو ريش كله حرير.. يا أبو ديل لسه قصير وجناح لسه صغير» فتحمس من معى بالغرفة ليشاركونى الغناء وارتفعت أصواتنا الصغيرة تدريجيا بغناء الأغنية المميزة لبرنامجها وكأننا نستعجلها  وعلى صوت الغناء حتى صار هتافا عاليا دون جدوى فبرغم صياحنا لم تحضر ماما سلوى  وغلف الحزن عيون المذيعين على شاشة التليفزيون المصرى وشعرنا بفطرتنا البريئة فى ذلك الوقت أن هناك حدثًا جللًا يمنعها من الوصول إلى شاشة التليفزيون لكى تحكى لنا الحدوتة اليومية وظهرت مذيعة أخرى لا نعرفها تردد كلامًا حزينًا عن الموت والعدو الغادر وسقوط طائرة وضحايا وشهداء وساد الصمت المريع فى بيتنا لدقائق وربما ساعات فى محاولة لاستيعاب ما حدث وبكت أمى طويلا وكأنها تنعى فردا من أفراد أسرتنا قبل أن تمهد لنا ما حدث وتشرح بأسلوب بسيط ومختصر أن ماما سلوى راحت عند ربنا وكدهون فى تلك الليلة أدركنا أن باب جنة العصافير قد أغلق إلى الأبد.. لن نسمع حدوتة جديدة من ماما سلوى ولكننا سمعنا حدوتة حزينة عنها. الجميع يرثى البنت الحلوة صاحبة الوجه الطفولى والابتسامة المشرقة والطلة الساحرة والصوت الرقيق الأقرب لتغريد العصافير التى تهوى عزف الموسيقى ورسم اللوحات الزيتية وتكتب الشعر باللغة الفرنسية وتحاور الكبار بتمكن الحكماء وتخترق قلوب الصغار بحنان الأمهات تشرح لهم بهدوء الفرق بين الصواب والخطأ فتهذب من سلوكهم وتشكل وجدانهم وكدهون، كتبت سلوى حجازى فى أحد دواوينها الشعرية تلك القصيدة الحزينة وكأنها تستغيث بجمهورها بما سيحدث لها فتقول:  أخاف الألم

أخاف.. أخاف.. أخاف العذاب

أود أموت كشمس تغيب

بدون ضجيج

أود أموت كما ابتلع البحر

دون وداع

كتب الشاعر الكبير فؤاد حداد  قصيدة رائعة فى رثاء سلوى حجازى بعد استشهادها فى سيناء قال فيها: سلوى العزيزة

يا فجر تلميذة فى جناين أم

ضحكتها مسموعة وملاكها لطيف

الورد كان خايف يلاقى الخريف

قدمك عليه السعد فتح الكُم

نور لك اليوم اللى غيمه خفيف

وارتاح لإيدك لسّه بتحضنه

لسّه الولاد ما بيعرفوش يحزنوا

عيَّط عليكى من قديم الزمان.. وكدهون

وقال عنها الشاعر الكبير أحمد رامى، فى مقدمة ديوانها أضواء وظلال: «لو أن الشاعرة سلوى حجازى، صاحبة هذا الديوان، صورت على هيئة طير، لكانت بلبلا يرفرف على غصن ندى، مرسلا أغنية يطرب لها الظل والماء، ولو أن لهذه الطائفة من الشعر نسخة مسموعة، لطرب من يصغى إلى هذا البلبل، لبدع توقيعه وحسن ترجيعه. فما بالك إذا كان هذا الديوان نسخة مرئية، إذن لأبصرت العين صورة ذلك البلبل وهو يتلع جيدة، ويرسل تغريدة، ويحرك رأسه الصغير على رجع لحنه الشجى. هذه هى الصورة التى أراها للشاعرة، كلما سمعت منها قطعة من الشعر صاغتها من صميم وجدانها، وصبغتها بألوان خواطرها، ورددتها على وقع خفقات القلوب..».

 يشهد شهر فبراير من هذا العام الذكرى الخمسين لوفاة مذيعة ماسبيرو سلوى حجازى الشهيرة بماما سلوى قدمت العديد من البرامج التليفزيونية وتميزت بشكل خاص فى برامج الأطفال ولعل البعض يتذكر رحلتها الشهيرة مع أم كلثوم إلى باريس 1968 فى حفلها الشهير فى باريس للغناء على مسرح «الأولمبيا» لجمع التبرعات للمجهود الحربى عقب نكسة يونيو 1967. وكيف تحدثت مع الجمهور الفرنسى بطلاقة كبيرة وتحاورت مع المطربة الفرنسيه مارى لافوريه التى كانت من ضمن الحاضرين فى الحفل للاستماع إلى أم كلثوم.

بمنتهى الثقة والاحتراف كانت تسألها ثم تترجم للجمهور إجاباتها فى نفس اللحظة كمترجمة فورية محترفة هذا بجانب حديثها التليفزيونى الرائع مع السيدة أم كلثوم وكدهون فقد كانت نموذجًا رائعًا وفريدًا لما يجب أن تكون عليه المذيعات من وعى برسالتهن الإعلامية مع تمتعهن بالثقافة والرقى والجمال، فقد مزجت الإعلام بالفنون الجميلة قبل أن يتحول الإعلام لمهنة من لا مهنة له وساحة لعرض محتوى رخيص ومبتذل لجمع المشاهدات واللايكات على السوشيال ميديا حتى إننا صرنا نشاهد مذيعات يفتقدن لأبسط المؤهلات المطلوبة للعمل الإعلامى يقدمن برامج ساذجة بدون أى محتوى أو رسالة إعلامية تنمى وعى الجمهور  وكدهون ومنحها الرئيس أنور السادات وسام العمل من الدرجة الثانية عام 1973 تكريما لها وعدّها من شهداء الوطن. وكدهون سلوى حجازى ساحرة الشاشة التى خلقت لنا عوالم سحرية برونقها الخاص وثقافتها المتشعبة وحضورها الخاطف للقلوب.

فى نفس الموعد انتظرنا وانتظرنا على باب جنة العصافير رغم أن قلوبنا اخبرتنا بأن هذا الباب لن يفتح لنا ولغيرنا مرة أخرى.. صفحة مضيئة من صفحات ماسبيرو التى أضاءت شاشة التليفزيون المصرى لسنوات وسنوات بجمالها وثقافتها وموهبتها الاستثنائية التى شكلت وعى ووجدان المصريين والعرب واعتبرها جيل الستينيات والسبعينيات بمثابة أما ثانيةً زرعت بداخله العلم والثقافة والفنون وحب الوطن.. محبتها فى قلوب المصريين تزداد رغم مرور كل هذه السنوات كانت مفاجأتى عظيمة بكل هذه  التعليقات الدافئة والمؤثرة جدا من أصدقائى على السوشيال ميديا عندما كتبت بوست فى ذكرى وفاتها وكأنهم يحيون ذكرى عزيزة وغالية عليهم كذكرى أمهم أو جدتهم وليست مجرد إعلامية رائدة فى هذا المجال وكدهون، فى محبة الست سلوى حجازى.