الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. ولكن شيئًا ما يبقى

كدهوّن!.. ولكن شيئًا ما يبقى

عندما خرج المذيع المصرى محمود مرسى على الهواء مباشرة عبر أثير إذاعة BBC البريطانية قائلًا.



«إن هذه هى آخر حلقة أقدمها فى هذه الإذاعة، حيث إنه لا يمكننى أن أعمل أو أقيم فى دولة تشن حاليًا عدوانًا على بلادى وتلقى بقنابلها على أهلى فى مصر ولتلك الأسباب أقدم استقالتى على الهواء وسوف أعود إلى بلادى أقاتل بجانب أهلى أعيش معهم أو أموت معهم».

 

ولن يكون هذا المذيع المصرى سوى الفنان الكبير محمود مرسى الذى يعرفه جمهوره كفنان موهوب ومثقف وله العديد من الأعمال الفنية المميزة والتى حفرت فى تاريخ الفن المصرى وكدهون ولكن قد لا يعرف البعض أنه كان يعمل فى بداية حياته كمذيع فى إذاعة الـbbc البريطانية فى القسم العربى وظل يعمل هناك حتى اكتشف الدور السلبى  للإذاعة البريطانية تجاه مصر أثناء العدوان الثلاثى عام 1956 عقب قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس، رفض الفنان محمود مرسى أن يُشارك فى هذا الهجوم وأن يكون أداة تستخدمها أى جهة لتحقيق أهدافها السياسية ضد وطنه وفضل أن يضحى بأحلامه وربما مستقبله المهنى بالعمل فى أوربا وما يصاحبها من نجاح وخبرة وأموال ربما لن يستطيع أن يحصل عليها فى بلده ولكنه رغم كل هذا فضل أن يقدم استقالته وعلى الهواء مباشرة حتى لا تكون هناك عودة مرة أخرى ثقة منه بسلامة موقفة وبإيمانه بقضيته ووجهة نظره التى دفعته للعودة إلى مصر ليكون فى مقدمة الصفوف للدفاع عنها والمدافعين عنها أمام العالم كله متسلحًا بعلمه وثقافته وخبرته فى مجال الفن والإعلام وكدهون، التحق محمود مرسى بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية قسم الفلسفة، وبعد تخرجه من الجامعة عمل مدرسًا إلى أن استقال منها، وقرر السفر إلى فرنسا ليدرس الإخراج السينمائى بمعهد الدراسات العليا السينمائية – إيديك - بباريس.

وهناك قرر العمل بوظيفة مذيع فى القسم العربى بالإذاعة الفرنسية، وما كاد يستقر بها وينظم وقته بين العمل والدراسة حتى فوجئ أن عليه أن يغادر باريس بقرار من السلطات هناك، كرد فعل على قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بطرد الخبراء الفرنسيين وتأميم شركة قناة السويس بقرار مماثل بطرد المصريين من فرنسا، فغادرها متوجها إلى لندن، وهناك التحق بالقسم العربى بهيئة الإذاعة البريطانية «BBC»، وبعد 7 أشهر من تعيينه وجد نفسه مرة أخرى يحزم حقائبه ويعود إلى القاهرة.

عاد محمود مرسى إلى مصر ليعمل فى البرنامج الثقافى بالإذاعة المصرية ليخرج بها العديد من روائع المسرح العالمى ثم ينتقل للعمل مخرجًا فى التليفزيون المصرى،بجانب عمله بالتدريس بمعهد الفنون المسرحية.

ولم يتوقف عند هذه المرحلة من حياته على الإخراج والتدريس فقط ولكنه اقتحم مجال التمثيل السينمائى بمنتهى القوة والثبات مستعينًا بموهبته ودراسته وثقافته الشخصية التى نسجت نموذجًا مختلفًا عن السائد فى ذلك الوقت ونجح فى تقديم شخصية الشرير المثقف الذى يتمتع بحضور طاغ وقوة شخصية تمكنه من القيام بجرائمه بمنتهى الهدوء والثبات دون أن يُثير شكوك الآخرين وساعده على ذلك ما منحته له الطبيعة من جسم ضخم وملامح حادة قاسية ليتبوأ مكانة مميزة وسط نجوم السينما المصرية فى وقت قصير وكأن تلك المكانة كانت تنتظره، فقد بدأ الفنان الكبير محمود مرسى التمثيل منذ عام 1962 من خلال فيلم (أنا الهارب) مع المخرج نيازى مصطفى، ثم قدم عام 1963 دوره فى فيلم الباب المفتوح أمام الفنانة فاتن حمامة ويكرر التجربة معها مرة أخرى فى نفس العام فى فيلم الليلة الأخيرة وفيلم المتمردة مع الفنانة صباح وأمير الدهاء مع الفنان فريد شوقى ليقدم نفسه على الشاشة المصرية كنموذج مختلف لشكل الشرير الذى اعتاد عليه الجمهور فى ذلك الوقت حيث اعتمد على أداء هادئ ورزين ومتزن دون مبالغة أو افتعال وصوت رخيم وقوى يبث الرهبة فى النفوس ويتوج هذه المرحلة من حياته الفنية بدوره الأسطورى فى الملحمة السينمائية «شىء من الخوف» حيث قدم شخصية القاتل المحترف وزعيم العصابة الذى يفرض سطوته على كل أهل القرية حتى باتت شخصية عتريس رمزًا شعبيًا لكل مجرم متجبر على أهل قريته رغم أنه قدم فى نفس الفيلم أداءً رومانسيًا ناعمًا مع فؤادة حبيبة ورفيقة طفولته والتى تحولت إلى نقطة ضعفه فى الكبر والتى أدت لهلاكه فى النهاية ليموت عتريس ويخلد محمود موسى فى واحد من أهم الأفلام المصرية، واستمر فى العمل السينمائى خلال فترة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بوعى وباختيارات مميزة تطل على حسن إدراكه لدور الفن فى تنمية وعى الجمهور بالإضافة للمتعة والترفيه، فقدم العديد من الأفلام المهمة مثل (الخائنة، السمان والخريف، أغنية على الممر، طائر الليل الحزين، أبناء الصمت)، ومنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين بدأ فى الاتجاه للدراما التليفزيونية أكثر، مما يتوافق مع خبرته والمرحلة العمرية التى وصل لها فى ذلك الوقت فقدم أعمالًا مميزة لها قيمة فنية كبيرة مثل مسلسلات (الرجل والحصان، زينب والعرش، عصفور النار، رحلة السيد أبو العلا البشرى، بين القصرين، لما التعلب فات، سفر الأحلام، والعقاد والليلة الموعودة)، ولعل دوره فى مسلسل العائلة الذى أذيع فى بداية التسعينيات يُعتبر نقطة مهمة فى مشواره الفنى والشخصى يؤكد على أنه رجل مواقف لا يخون مبادئه مهما كلفه الأمر من تضحيات ومواجهات فقدم شخصية كامل سويلم ذلك المواطن البسيط الذى يتصدى لإرهاب التطرف الدينى فى عز سطوته، ورغم خطورة الدور والتهديدات لم يتردد فى محاربة الإرهاب بالفن وتنمية وعى الجمهور لخطورة القضية على مستقبل الوطن وكشف حقيقة استخدام الدين للسيطرة على البسطاء ونجح المسلسل فى رسالته التنويرية رغم ما تعرض له من تهديدات وكدهون.

- شارك الفنان محمود مرسى فى 6 أفلام بقائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية حسب استفتاء النقاد عام 1996: السمان والخريف 1967، شىء من الخوف 1969، زوجتى والكلب 1971، أغنية على الممر 1972، ليل وقضبان 1973، أبناء الصمت 1974.

- يعتبر مسلسل «رحلة أبو العلا البشرى» الذى قدمه من تأليف أسامة أنور عكاشة أشهر أعماله إلى جانب إعادة تقديمه لثلاثية نجيب محفوظ ودور السيد أحمد عبدالجواد، الذى لعبه من قبل يحيى شاهين فى الثلاثية الشهيرة.

وكدهون ها هى تتوقف، إذاعة «بى بى سى عربى» البريطانية عن البث عبر الأثير، معلنة نهاية خدمة إعلامية استمرت لنحو 85 عامًا، من نشأتها ومن قبلها رحل عن عالمنا الفنان الكبير محمود مرسى ولكنه ظل حيًا فى وجدان المصريين بمواقفه الوطنية ودفاعه يومًا من الأيام عن هويته ووجهة نظره وقضيته الشخصية قبل أن تكون قضية عامة ورفض أن يكون مجرد أداة فى يد أى جهة تشتغل لتحقيق أهدافها الخاصة، فالرجل موقف قبل أن يكون موظفًا يتقاضى راتبًا نظير عمله، وهذا ما يبقى إلى الأبد، فالفنان محمود مرسى لم يكن فقط فنانًا موهوبًا ومثقفًا فقط ولكنه كان له رأى ومواقف ووجهة نظر يحتمى بها ويدافع عنها مهما كلفه الأمر من تضحيات وخسائر، وكدهون، ويبقى تاريخ الإنسان شاهد عيان يرصد ويسجل كل ما حدث من مواقف شجاعة لرجل رفض أن يُستخدم ضد وطنه أو يكون مجرد أداة فى يد غيره يستغلها كيفما يشاء كيفما شأت لتحقيق أهدافه حتى ولو تعارضت مع مبادئه وأفكاره وكدهون فى محبة الأستاذ محمود مرسى.