الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. الثقافة أصبحت «كالماء والهواء».. «حياة كريمة» للمصريين فى أجنحة النشر الحكومية أيام طه حسين فى معرض الكتاب 2023

الطريق الثالث.. الثقافة أصبحت «كالماء والهواء».. «حياة كريمة» للمصريين فى أجنحة النشر الحكومية أيام طه حسين فى معرض الكتاب 2023

إن حديثنا عن قيمة معرض القاهرة الدولى الكتاب وأهميته وأثره، ربما يبدو حديثًا مكررًا، لكنه فى 2023 ومع دورته الـ54 ربما يكون له أبعاد مغايرة، فلا شك أننا أمام حدث سنوى كبير هو الأضخم عربيًا من حيث أعداد المبدعين والضيوف والزائرين وكذلك من حيث تنوع الفعاليات وعناوين الكتب وعدد دور النشر من مختلف دول العالم، إنه كرنفال ثقافى حقيقى، وبهجة متجددة يهرول إليها المصريون فى شغف حضارى يعكس أثر الوعى الراسخ فى عمق الشخصية المصرية رغم ما يحاصرها من تشوهات.



 

قبل انطلاقه هذا العام، توقع البعض تراجعًا فى التأثير وانخفاضًا فى الجمهور، تعللًا بالأزمة الاقتصادية العالمية، التى جعلت كل أسرة فى مصر (والعالم أجمع) تفكر ألف مرة وتراجع نفسها قبل كل «جنيه» تصرفه، نعم لا يزال الجنيه المصرى مرجعية قياس وسيبقى وبمشيئة الله سيعود قريبًا إلى رونقه، خاصة بعد أن نجح فى معرض الكتاب أن يثبت حضورًا قويًا، ويقدر على شراء كتاب، رغم شكوى مكررة من ارتفاع (جنونى) فى أسعار الكتب التى تجاوزت مئات الجنيهات فى معظم دور النشر، لكن أجنحة وزارة الثقافة المصرية كان لها رأى آخر، حيث أصرت الدولة المصرية من خلالها على استمرار دعم الثقافة، ليكن حق المعرفة ليكن فى موقعه بين حقوق الإنسان المصرى التى أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى استراتيجيتها الوطنية عام 2012 ورسخها عبر سنوات حكمه، وكانت مبادرة «حياة كريمة» أبرز وسائل تحقيقها، وهى تتواجد للمرة الأولى فى جناح رسمى بالمعرض، وتتحقق كفكرة ومبدأ من خلال أسعار مخفضة للكتب تناسب الجميع فى أجنحة هيئات النشر الحكومية لوزارة الثقافة بالمعرض وفى مقدمتها هيئتا الكتاب وقصور الثقافة.

 الثقافة كالماء والهواء

ملامح كثيرة تميز بها معرض هذا العام، ربما يكون أهمها فى رأيى هو الحضور الكبير لعميد الأدب العربى طه حسين، حضورًا كاشفًا تحقق فى تواجد كتبه بين أيدى جميع زوار المعرض، وجعل جناح هيئة قصور الثقافة هدفًا ثابتًا فى أجندة غالبية زوار المعرض، لتحقق كتبه هدفًا نبيلًا وتصبح معه الثقافة «كالماء والهواء»، اقتباسًا من أشهر مقولات عميد الأدب العربى ومستبدلًا الثقافة بالتعليم، وقد انشغل بها أيضا مفكرنا الراحل وألف فيها واحدًا من أهم كتبه «مستقبل الثقافة فى مصر»، وحقق به القدر بعض ملامح هذا المستقبل.

وبعد يُعَدُّ طه حسين عَلَمًا من أعلام التنوير والحركة الأدبية الحديثة، امتلَكَ بَصِيرةً نافذة وإنْ حُرِم البصر، وقاد مشروعًا فكريًّا شاملًا، استحقَّ به لقبَ «العميد»، وتحمَّلَ فى سبيل آرائه المجددة أشكالًا من النقد والمُصادَرة. وقد أطلقت هيئة قصور الثقافة فى معرض الكتاب هذا العام مشروعها الأهم والذى يتمثل فى إحياء ذكرى طه حسين (1889 - 1973)، وأعادت نشر عشرين عنوانًا من أشهر كتبه، بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيله ومن أبرز الكتب المطروحة للعميد الراحل: «مع المتنبى»، و«مع أبى العلاء فى سجنه»، و«صوت أبى العلاء»، و«فى الشعر الجاهلى»، و«فصول فى الأدب والنقد»، و«الأيام».

 جائزة طه حسين للتجديد 

قبل ثلاثة أعوام شرفت بإدارة ندوة (شهيرة) عن كتاب «فى الشعر الجاهلى»، نظمتها الجمعية المصرية لنشر الثقافة والمعرفة، أعرق الجمعيات المصرية المهتمة بالكتاب، وأطلقت يومها حلمًا تمنيت أن أراه يتحقق يومًا، وهو إطلاق جائزة علمية باسم طه حسين، لتجديد الخطاب الدينى فى العالم الإسلامى، وتمنيت أن يرعى الأزهر هذه الجائزة، وكتبت مقالًا نشرته فى أحدث «مشكلة الإسلام» والمتاح فى معرض هذا العام بعنوان «الأزهر وطه حسين»، تمنيته جسرًا للمصالحة الجادة بين المؤسسة العريقة وآراء واجتهادات مفكرنا الكبير، كان من بين ما ذكرته: بين صدمة تلقاها من شيخه وهو يصرخ فيه قائلا: «اقرأ يا أعمى» ومقالة نسبت له بعنوان «ساعتان فى الضحى بين العمائم واللحى»، اشتعلت معركة عمرها تجاوز القرن بين طه حسين والأزهر، وأثرت أحداثها فى تشكل ملامح رحلته الفكرية ومشروعه فى التزاوج بين التاريخ الإسلامى والحضارة الغربية، واحتاج الأمر سنوات كثيرة ليُشيد عميد الأدب العربى تواصلا بين أصوله الملتزمة وأجنحته الفكرية المتحررة (بين الأصولية والعلمانية، الضدين المتصارعين على العقل العربى)، بعد أن تعمقت رؤيته وتفردت قدراته، فأبدع وتجسد هذا فى أعماله الفكرية ومنها «على هامش السيرة»، و«الشيخان»، و«الفتنة الكبرى»، كنماذج دالة على متانة الفهم العلمى والدينى».

العميد و«مشكلة الإسلام»

ظلمت «الأيام» طه حسين وأنصفته مسيرته وجهده وإخلاصه العلمى، وربحت الأمة من هذا الظلم وانتبهت بفضل المعركة التى دارت بين الأزهر وطالبه (السابق) إلى مستجدات الحضارة الإنسانية، وتطورات العلوم والنهضة الفكرية خارج عباءة الخلافة العثمانية التى أظلمت العقل العربى المسلم وأفسدته بأفكارها الخبيثة التى ترسبت تحت المسام وبين الشقوق فى كل ركن عربى، ونجاهد إلى اليوم كى نتخلص من بقاياها وذيولها.

لم يكن غريبا أن يتواكب تمرد الفتى الأزهرى (المغضوب عليه)، والمهاجر بشغفه العلمى من الجامعة الأهلية فى القاهرة إلى السوربون الفرنسى، مع سقوط الخلافة العثمانية وما أحدثه هذا السقوط من اعتلال فى جسد الأمة الإسلامية، بعد أن شرذمها إلى دول مستعمرة عقولها خاضعة لكل إرهاصات المرحلة وتجاربها الفكرية والعبثية، فسطعت أفكار غزيرة متحررة بعضها مقبول وكثيرها لم يقو الجسد العربى (والمصرى) المهترئ على تفهمه أو تقبله.

 الأزهر وطالبه السابق

وقد توطدت علاقة الأزهر بالدكتور طه حسين بعد أن نضجت ثورته التجديدية، وهذب قسوته اللفظية التى استخدمها فى كتابه الأشهر «فى الشعر الجاهلى»، وكذلك تضاءل ثأره الشخصى مع المؤسسة ومشايخها بعد ما حرموه من شهادة «العالمية»، وهو الحرمان الذى شكل حافزا مؤثرا فى نجاحه ومسيرته العلمية، وقد لاحت المودة فى منتصف ثلاثينيات القرن الماضى بين طه حسين والأزهر، حيث دعته مجلة الأزهر إلى أن يكتب فيها عن ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم واستجاب طه حسين لهذه الدعوة، وكان ذلك فى ظل رئاسة الشيخ المراغى لمشيخة الأزهر.

وقد وجدت حديثا منسوبا للدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالى، ومنشورا فى موقع اليوم السابع عام 2016 جاء فيه: «كنت وأبناء جيلى نقرأ أمثال هذه الكتب لنتعرف على هويتنا فى هذا المعترك الثقافى الدولى، فمثلا طه حسين بالرغم من أنه كتب كتابا معينا وكان للأزهر موقف منه، إلا أننى مع ذلك أعتبره شديد الأدب مع التراث ومع رسول الله ومع أبى بكر وعمر وعثمان، ومن هذا المنطلق كنّا نعيش دائمًا مع هذه الكتب ومع هذه القامات؛ لأنها فعلًا تربى العقول وتكون الزاد المعرفى».

 الانبهار والانتصار

وربما مثلت محاولة المفكر الإسلامى الراحل محمد عمارة فى كتابه الذى نشر مع مجلة «الأزهر» فى عام 2014 تحت عنوان «طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام»، محاولة جادة للمصالحة بين العميد والأزهر عاب عليها البعض نوعا من التحيز ضد طه حسين ونعت سيرته بالمشاع عنها وليس المؤكد فيها، ولكنها خطوة من خطوات ربما تسهم فى إزالة السد المنيع الذى حرم الأزهر من فكر طه حسين، وحرم طه حسين من مكانته التى يستحقها التى بين علماء الإسلام.

إن تجربة طه حسين فى تجديد الفكر الإسلامى، تستحق التأمل والتدبر، ربما يستفيد منها المهمومون بهذا الأمر، وربما يكشف إعادة قراءة التجربة بعد مرور قرن على سطوعها، تجديدا آخر وكشفا عن مدى قدراتنا الحالية على تقبل الاختلاف والتفاعل معه.

 بروفايل العميد

وقد وُلِد «طه حسين على سلامة» فى نوفمبر 1889 بقرية «الكيلو» بمحافظة المنيا. وفَقَدَ بصرَه فى الرابعة من عمره إثرَ إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يَثْنِ والِدَه عن إلحاقه بكُتَّاب القرية؛ وتابَعَ مسيرته الدراسية بخطوات واسعة؛ حيث التحَقَ بالتعليم الأزهرى، ثم كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية عامَ 1908 وحصل على درجة الدكتوراه عامَ 1914 لتبدأ أولى معاركه بعد أن أثارَتْ أطروحتُه «ذكرى أبى العلاء» مَوجةً عالية من الانتقاد. ثم أوفدَتْه الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أَعَدَّ أُطروحةَ الدكتوراه الثانية: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا فى القانون الرُّومانى. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية «سوزان بريسو» عظيم الأثر فى مسيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامَتْ له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلِصة التى دعمَتْه وشجَّعَتْه على العطاء والمُثابَرة، وقد رُزِقَا اثنين من الأبناء: «أمينة» و«مؤنس».

وبعد عودته من فرنسا، خاض غِمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل أستاذًا للتاريخ اليونانى والرومانى بالجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربى بكلية الآداب، ثم عميدًا للكلية. وفى 1942 عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وفى 1950 أصبح وزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم، وكان له الفضل فى تأسيس عددٍ من الجامعات المصرية. وفى 1959 عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرِّغ»، وتسلَّمَ رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية»، ورحل عن دُنيانا فى أكتوبر 1973 عن عمرٍ ناهَزَ 84 عامًا، قضاها معلِّمًا ومؤلِّفًا وصانعًا من صنَّاع النور.