حسن عيسى
كدهوّن!.. الغندورة منيرة
عشقت الحياة فوق المياه، تتحدى الرياح وتصارع الأمواج وتسبح مع التيار مرة وضده مرات لتفرض موهبتها الاستثنائية فى مجتمع ذكورى لا يعترف بوجود المرأة كشريك أساسى فى صنع الحياة العصرية وكدهون، عشقت النيل منذ نعومتها وعاشت بين جنباته ووجدت فيه رفيق الدرب وحافظ الأسرار وشاهدًا على عصرها وما يحتويه من نجاحات وانكسارات وكدهون.
قدمت الفتاة الصغيرة (زكية منصور) من محافظة الشرقية فى مطلع القرن العشرين متسلحة بموهبتها وثقتها الطاغية بقوة وجمال صوتها وسحر حضورها وجبروت أنوثتها فكان لها ما أرادت بالفعل، فأقامت عوامة ضخمة على ضفاف نهر النيل تنعم بصحبته وتهتز لاهتزازه وتأنس لتدفق مياهه أسفل قدميها وكأنها إحدى عرائس النيل التى تهب لمصر فنون الغناء والطرب والتمثيل فى وقت كانت حكرًا على الرجال فقط، بينما تتوارى النساء بعيدًا خلف المشربيات تشارك على استحياء دون أن يكون لها دور مؤثر وفعال على الحركة الفنية فى مصر فى ذلك العصر، حيث قررت الست منيرة المهدية أن تتحدى العادات والتقاليد وتخرج على المجتمع بوجهها المصرى ذي الملامح الريفية لتقف بشموخ وعزيمة تغنى وتمثل على المسرح كأول امرأة مصرية تعتلى المسارح بشكل محترف لتنافس الرجال فى ملعبهم فتكتسح الجميع وتتسيد الساحة الفنية لما تمتلكه من موهبة طاغية وإمكانيات استثنائية، إمكانيات وقوة شخصية أتاحت لها المقدرة على القيادة خصوصًا بعد أن نجحت فى تكوين فرقة مسرحية تحمل اسمها لتجوب بها الشرق والغرب وتحفر على الحجر تاريخًا من ذهب لتكون لها الريادة كاول امرأة مصرية تعتلى المسرح بشكل احترافى وأول مطربة تسجل اسطوانات وأول مطربة ينبعث صوتها عبر أثير الإذاعات الشعبية التى انتشرت فى ذلك الوقت، وقبل إنشاء الإذاعة الرسمية المصرية وكدهون، وكما لنهر النيل مواسم عطاء ومواسم جفاف عاشت الست منيرة مواسم توهج فنى ونجاحات غير مسبوقة، وكذلك حصدت إحباطات كبيرة وانكسارات عميقة أعاقت مسيرتها كما تعوق الصخور تدفق نهر النيل حتى توقف عطاؤها الفنى إلى الأبد، وتختفى عن الوجود وتتقوقع داخل عوامتها وكأنها تكتفى بصحبة النيل رفيق دربها، والشاهد على أسطورتها ونجاحها الذى فاق الآفاق حتى لامست عنان السماء وأصبحت ملء الأسماع والأبصار، انتهى بها الحال لاعتزال البشر جميعًا لتجد السلوى مع القطط والكلاب وحتى والثعابين وبعض الطيور، وكأنها اكتفت بسماع تغريدهم عوضًا عن خفوت صوتها، فانزوت وحيدة داخل عوامتها تجتر الذكريات والحكايات والنجاحات وتهرب من أرض الواقع الذى أفسح الطريق أمام كوكب الشرق أم كلثوم لتعتلى القمة بمفردها إلى يومنا هذا، تختفى الست منيرة، ويختزل البعض تاريخها العظيم كإحدى رائدات المسرح الغنائى فى مصر إلى أنها فقط غريمة أم كلثوم التى تفرغت لمحاربتها والإساءة لها فى محاولة فاشلة للقضاء على المطربة الصاعده بقوة فى ذلك الوقت دون جدوى وكدهون، بدأت حياتها الفنية عام 1905 كمغنية فى قهاوى الرقص المعروفة فى ذلك الوقت ولم يمض وقت طويل حتى بزغ نجمها وذاع صيتها، فانتقلت إلى قهوة نزهة النفوس التى اشتُهرت بوجود الست منيرة بها وظلت تُشجِى الجمهور وتُطرِبه فى تلك القهوة حتى صارت مطربة الأزبكية الأولى حتى أُصيب الشيخ سلامة حجازى رائد المسرح الغنائى بمرض إعاقة عن الحركة والغناء. وشعر الناس بفراغ فنى شديد مما مهد الطريق أمام الست منيرة لاعتلاء المسرح لكى تملأ ذلك الفراغ، ولكنها كانت ترفض رغم إلحاح المخرج المسرحى عزيز عيد عليها فى التقدم لهذه الخطوة غير المسبوقة من قبل ولكنها ترددت ولم تستجب لإلحاح المحيطين بها، وظلت تعمل فى قهوة نزهة النفوس مكتفية بنجاحها الكبير هناك، وعندما أصدرت السلطة العسكرية أمرها بإغلاق القهاوى والبارات من الساعة العاشرة مساءً وسرى هذا الأمر طبعًا عَلَى قهوة نزهة النفوس انتهز المخرج عزيز عيد هذه الفرصة وكرر طلبه مرة أخرى على الست منيرة التى لم تجد بديلًا عن غلق قهوة نزهة النفوس إلا باعتلاء المسرح تغنى القصائد وتمثل روايات عالمية خلفًا للشيخ سلامة حجازى وتذكر أنه قال لها بعد سماعه لصوتها لأول مرة: «أوصيك خيرًا بحنجرتك وبتلك البحة الخالدة، صوتك اسمه الصوت الأبيض، وتسأله منيرة بسذاجة: هو فيه صوت أبيض يا شيخ سلامة؟، فيرد عليها: صوتك كل 100 سنة لما بييجى فى الدنيا صوت زيه، حافظى عليه، حافظى كويس فأنت خليفتى فى المسرح الغنائى، وبالفعل تقدمت منيرة المهدية خطوات عظيمة فى ذلك المجال، وكدهون، لم تؤد منيرة المهدية دور البطولة فى الروايات المسرحية التى قدمتها فرقتها فحسب، لكنها أيضًا أخرجت بعضها لتحقق نقلة نوعية فى المسرح العربى بظهورها على خشبة المسرح لتؤدى دور السيدات، فتحت منيرة المهدية المجال لدخول مصريات أخريات بعد أن كان التمثيل المسرحى لهذه الأدوار مقصورًا على الأجنبيات والشاميات فقط وكدهون، تغنت منيرة لسعد بصورة غير مباشرة من خلال طقطوقة: «شال الحمام حط الحمام.. من مصر السعيدة لما السودان.. زغلول وقلبى ما له.. أنده له لما احتاج إليه».
ولقد انتشرت هذه الأغنية التى كتبها يونس القاضى، ولحنها محمد القصبجى وحققت نجاحًا ملحوظًا، ولم تكن السلطانة وحدها التى تغنت بصورة غير مباشرة للزعيم سعد، فقد تغنت نعيمة المصرى، ومعها الأمة المصرية، لسعد زغلول، بكلمات طقطوقة: «يا بلح زغلول.. يا حليوة يا بلح.. يا بلح زغلول يا زرع بلدى.. عليك يا وعدى يا بخت سعدى»، تلك الأغنية البسيطة التى ألفها بديع خيرى ولحنها سيد درويش والتى تحمل فى طياتها معان سياسية، وانتشرت كالنار فى الهشيم ليهتف بها الشعب المصرى فى الشوارع تصديًا وتحديًا لقرارات المستعمر البريطانى كبديل للهتاف باسم سعد زغلول. ولا شك أن كل هذه المواقف الوطنية الشجاعة أضفت على منيرة المهدية هالة من الاحترام والوطنية والمكانة العالية فى نفوس جمهورها لدرجة أنه أطلق شعار، «هواء الحرية فى مسرح منيرة المهدية». نظرًا للأعمال الفنية التى تدعم الثورة وتساند زعيمها رغم تهديدات المستعمر الإنجليزى فى ذلك الوقت كدهون، ولقد كان غناء منيرة المهدية وألحان سيد درويش أفضل أداة لتوثيق هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ مصر، وكدهون، انطلقت للخارج عقب ثورة 19، وظلت تتنقل بين الشمال العربى الإفريقى والآسيوى من المغرب إلى العراق على مدار ثلاث سنوات، وخلال تلك الفترة تلقت أول قصيدة مدح لها ولفنها من الشاعر العراقي معروف الرصافى، وفِى سوريا ولشهرتها الطاغية استغل تاجر دخان الفرصة وأطلق اسمها على علبة سجائر «دخان منيرة».
وعقب عودتها للقاهرة ومع استمرار تألق فرقتها التى كانت أمل كل نجوم مصر للانضمام إليها، كان لها الفضل الأول فى تقديم المطرب الشاب محمد عبدالوهاب على مسرحها، عادت منيرة المهدية إلى المسرح الغنائى مرة أخرى بعد توقفها لفترة طويلة 1925، وبدأت عملها بمسرح برنتانيا بعرض مسرحية جديدة هى «الغندورة»، تأليف بديع خيرى، وتلحين داود حسنى، وإخراج بشارة واكيم وقامت الفرقة بإعادة عرضها مرات كثيرة طوال هذا الموسم.كما قدمتها بعد ذلك بعشر سنوات من خلال فيلم سينمائى يحمل نفس الاسم «الغندورة» إلا أنه فقد مع الأسف ولا يوجد منه أى نسخة توثق مرحلة مهمة من تاريخ سلطانة الطرب وكدهون، كتب شيخ الصحفيين فكرى أباظة فى «الأهرام» بتاريخ 7 أبريل 1925، قائلًا: «كيف أبتدى؟ ومتى أنتهى؟ وماذا أقول؟ شهدت ليلة السبت الماضى تمثل رواية «الغندورة» فى تياترو «برفايا»، فسحرت سحرًا وشعرت لأول مرة فى حياتى بأننى سعيد، وحلت كل التصورات المفرحة محل الحقائق المؤلمة: فتصورت.. (جيش الاحتلال) ينسحب من مصر. وتصورت «برلماننا» المنحل مشتغل آناء الليل وأطراف النهار فى جو يرفرف على الجميع علم الحرية، والاخاء، والمساواة!
من شاء منكم أن يكون سعيدًا مثل (سعادتى) فليشهد نص هذه الرواية ليشهد «منيرة المهدية» وقد أقسمت أن تسيطر على الجموع المحتشدة فتلعب بقلوبهم، وعقولهم.. نجاح فوق التصور، نجاح خارق للعادة، نجاح لا أستطيع أن أصفه إلا بكلمتين: (شىء يجن)!!!» وكدهون لأسباب كثيرة لعل أهمها نجاح كوكب الشرق أم كلثوم الطاغى قررت السلطانة الانزواء والابتعاد فى هدوء لمدة عشرين عامًا ويتجدد الأمل بداخلها مرة أخرى فتعود للغناء وقد وهن الصوت وخفت الحضور وفقدت منيرة المهدية سيطرتها على القلوب لتنتهى وحيدة مهزومة من غريمتها ومن غدر الزمن لتموت فى هدوء فى عام 1965، داخل عوامتها على ضفاف النيل الذى شاركها نجاحاتها وانكساراتها، واليوم يقف شاهدًا على عصر من الحلم والإبداع غير المسبوق والتحدى لكل المعوقات ليوثق بالغناء والتمثيل والصحافة جزءًا مهمًا من تاريخ مصر المعاصر ويسطر بحروف من ذهب سيرة عظماء وهبوا أرواحهم للخلود.