
حسن عيسى
كدهوّن!.. «روزا» الوردة المفتحة
بعيون طفلة شغوفة فتّحت عينيها فى مينا الإسكندرية يقودها طموحها المتجاوز لإمكانيات فتاة بسيطة وُلدت فى بدايات القرن الماضى دون مال ولا جاه، لا تمتلك سوى حلم بحياة أفضل وثقة كبيرة فى قدرتها على تحقيق هذا الحلم فى عالم لا يعترف إلا بالأقوياء فقط وكِدَهُوّن
مَن كان يتخيل أن هذه الطفلة اليتيمة الفقيرة القادمة من بيروت على متن تلك الباخرة العملاقة للهجرة إلى البرازيل لتواجه مصيرها المجهول الذى ينتظرها هناك أن تتمرد فجأة على قدرها وتقرر بعزيمة المغامرين أن تغيّر مسارها وتهبط إلى ميناء الإسكندرية لتكتب بيديها الصغيرتين أول سطر فى حكايتها الخاصة المختلفة عن حكايات البنات المستضعفات فى عصرها وقد تسلحت بالإرادة والعناد بعد أن أيقنت أنهما سبيلها الوحيد للخلاص من المصير الذى يحاصرها منذ ولادتها حتى وصولها لحضن القاهرة مدينة الأحلام التى تسعى بكل السُّبُل للتطور والحداثة وتحتضن كل المواهب القادمة إليها من كل أنحاء العالم لتعيد صياغتها وتشكيلها بعد إضافة المذاق المصرى الخاص بها حتى تنصهر فى المجتمع الجديد.
وها هى «روزا»، الوردة المتفتحة قد وجدت المناخ الذى يستوعب طموحها وحلمها بالشهرة والتحقق واحتراف الفن المسيطر على روحها المتمردة الحُرّة.
وكِدَهُوّن بخطوات دؤوبة فى الطريق الصعب نجحت روزاليوسف فى الوصول لخشبة المسرح المصرى وأصبحت بعدها بسنوات قليلة بجدارة «سارة برنار الشرق»، ووقفت بندية أمام يوسف بيك وهبى لتقدم روائع روايات عالمية، يستمر نجاحهما معًا من مسرحية لأخرى حتى وقع الخلاف بينهما فتقرّر ترك الفرقة المسرحية واعتزال الفن إلى الأبد ولم يغيرها نجاحها فى البقاء فى مهنة فقدت شغفها بها ليأخذها طموحها من جديد ويُحلق نحو عالم الصحافة الورقية وهو مجال يصعب على أى امرأة شرقية اختراقه فما بالك لو كانت ممثلة معتزلة لا تمتلك من الخبرة الصحفية ما يزكيها ويدعمها فكيف تنجح فى هذا المجال الغريب عنها ومن أين تبدأ خطواتها؟
وفعلتها «روزا» مرّة أخرى وجمعت كل ما تملك من أموال ومتاع وأطلقت مَجلتها التى تحمل اسمها فى تحدٍّ جديد لعادات وتقاليد الشرق الذى يتعامل مع اسم المرأة كعورة يجب إخفاؤه، ونجحت فى إقناع نخبة من كبار الكُتّاب والصحفيين أن يعملوا تحت إدارتها وهو الشىء المحال فى تلك الفترة التى كان المجتمع يتعامل مع المرأة ككائن جميل ولكنه فاقد للأهلية فكيف يقبلها كمديرة وصاحبة إحدى المجلات الكبرى.. وتحكى «روزاليوسف» عندما رفض الأستاذ عباس العقاد فى بادئ الأمر أن يعمل فى مجلة تحمل اسم امرأة!
لكنه فى النهاية أصبح من كُتّاب روزاليوسف الأساسيين وكعادتها تحدى الصعب ونجحت فيما فشل الرجال المحترفون وكِدَهُوّن.. ما زلت أتذكر رد الفعل العنيف من أهالى إحدى قرى محافظة الدقهلية عندما تقرّر اطلاق اسم الفنانة الكبيرة فاتن حمامة على مدرسة ثانوية للبنين بعد وفاتها فى بدايات القرن الحادى والعشرين وكيف ظهر أحد الطلبة يصرخ فى برنامج تليفزيونى ويصيح: كيف أقول للناس إنى خريج مدرسة فاتن حمامة الثانوية؟؟ هذا الموقف الصادم يشرح بوضح النظرة للمرأة وللفن عمومًا فى مجتمع شرقى متحفظ قد يستمتع بالفنون ويصفق للفنانين ويسعى للاقتراب منهم ولكنه فى قرارة نفسه يتحفظ على تلك المهنة ويرفضها وربما لا يحترمها أيضًا حتى ولو أخفى تلك الحقيقة فإنها تظهر فى تصرفاته ومواقفه فما بالك لو عُدنا بالزمن لمئة عام قبل تلك الواقعة وبالتحديد بدايات القرن العشرين وما صاحبها من صعوبات بالغة عندما أردات أشهَر ممثلة مسرحية فى مصر أن تعتزل الفن فى أوج مَجدها لتحترف الصحافة، كيف أقنعت هذه السيدة نخبة مميزة من الكُتّاب والصحافيين الكتابة فى مجلة تديرها سيدة كل خبرتها فى الحياة هى التمثيل وليس الكتابة؟؟ وهو الأمر الذى استغله المنافسون ضدها لدفعها اليأس والاعتزال حتى إن مجلة مثل (الكشكول) كانت تتعمد إهانتها وتطالبها بالعودة إلى شارع عماد الدين؛ حيث المسارح والتمثيل وترك الصحافة لأصحابها؛ إلا أن روزاليوسف لم تعبأ بمثل هذه المهاترات واستمرت فى كفاحها ومعاركها ومع الوقت اختفت مجلة الكشكول وبقيت روزاليوسف حتى اليوم كشاهد على عصر من التحديات والنجاحات وكِدَهُوّن.
روزاليوسف لم تكن مجرد صاحبة مجلة ذات شخصية قوية ومقاتلة وعنيدة فقط ولكنها كانت رسالة فى حد ذاتها من ضمْن رسائل كثيرة انطلقت فى تلك الفترة لتغيير مفاهيم وأفكار عتيقة كانت راسخة فى وجدان المجتمع لتشارك فى صُنع حضارة حديثة تستوعب كل الاختلافات وتفسح الطريق للمستقبل المضىء بفضل كفاحها هى وزملائها لإعلاء كلمة الحق والحرية، وساهمت بحق فى صياغة تاريخ مصر الحديث وتغيير نظرة المجتمع إلى المرأة بشكل عام والى الصحافة بشكل خاص؛ فقد وقفت رأسًا برأس أمام رؤساء الحكومات وتحدّت الفساد والفاسدين وحين أغلقوا لها مجلة فتحت غيرها فى أيام، ولم تخشَ أن تخسر أموالها أو تدفع حياتها ثمنًا لمبادئها وأفكارها فى الحياة حتى لو كلفها ذلك حريتها.. وكِدَهُوّن.. ظلت تعتز بشخصيتها وبحق المرأة فى العمل ومشاركة الرجل مسئوليات الحياة بمنتهى الندية والمساواة حتى عندما كتب الشاعر كامل الشناوى مقالاً عنها بعنوان (الست الراجل) قال فيه: «عرفتُها رجلًا، كانت دائمًا ثائرة، متحررة، عنيدة، شجاعة، تهاجم بعنف، وتؤيد فى الحق، لا تقول إلا ما تعتقد ولو كان فيما تعتقده ما يُعرّضها لغضب الحاكم أو سخط الجماهير»، ردت على مقالة هذا بجملتها الشهيرة : «إن صديقى كامل الشناوى يقول إنى رجل، لا يا كامل لستُ رجلًا ولا أحب أن أكونه، إنى سيدة، وفخورة بأنى سيدة، وعيب صحافتنا هو كثرة رجالها وقلة سيداتها!! وقد غفرت لك ويوم أرضى عنك وأرضى عن جهادك سأقول إنك سيدة!!».. أعتقد أن هذا الرد البسيط هو مفتاح شخصية السيدة روزاليوسف.
لقد عشقت روزاليوسف الكلمة وأدركت أهميتها وقدرتها على التأثر فى حياة الشعوب وتطوير المجتمع والنهوض به فاعتلت خشبة المسرح تمثل روائع المسرحيات العالمية فيصفق ويهتف باسمها الجمهور وأخرجت للعالم العربى جريدة باسمها كانت نواة النهضة الصحافية العربية ولا تزال حتى اليوم، مَدرسة يتخرّج منها كل كاتب وصحافى ناجح، ويهتف باسمها بائعو الجرايد فى الشوارع والحارات فتشعل المعارك بكلمة وتستفز الحكومات والسياسيين بمقالاتها الجريئة ولم تتراجع أبدًا عن موقفها ولا مبادئها حتى عندما فتحت لها أبواب السجون وكِدَهُوّن.. كتبتْ يومًا: كلنا سنموت، ولكن هناك فرْق بين شخص يموت وينتهى وشخص مثلى يموت ولكن يظل حيًا بسيرته وتاريخه- إنها روزاليوسف امرأة تحدّت أقدارها وكافحت حتى تصبح رقم واحد فى المعادلة الصعبة فتحقق لها ما أرادت.. وهكذا صنعت أسطورتها بنفسها.