الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

رواية تجسد انتصار الإنسان على الإغراءات.. حرمت الكاتب من كنيسته كتاب و أديب.. «الهرطوقى» رواية إسبانية تكشف عنف محاكم التفتيش فى القرن الـ16 "الحلقة 4"

فى هذه الحلقة الجديدة ستأخذنا رواية «الهرطوقى» للكاتب الإسبانى «ميجيل ديليبس» إلى القرن السادس عشر حيث محاكم التفتيش الكنسية، هذه الحقبة التى يبدع فيها الكتَّاب والروائيون فى غزل أحداثها لينقلوا تأثيرها للعالم الحديث.ولكن قبل الحديث عن «الهرطوقى» لا بد أن نتعرف على المبدع «ميجيل» والذى كانت روايته تلك هى آخر رواية له قبل وفاته فى عام 2010.



ولد ميجيل ديليبس، الذى ينحدر من الفرنسية والإسبانية، فى بلد «الوليد» بإسبانيا حيث التحق بالمدرسة الثانوية حتى عام 1936.

عاش طفولته فى بلدية موليدو، فى كانتابريا، حيث نشأ والده وكانت حياته الهادئة مصدر إلهام ،شغف المؤلف بالصيد والطبيعة، وهما موضوعان متكرران فى عمله. تزامن دخوله إلى عالم الكبار مع بداية الحرب الأهلية الإسبانية مما أجبره على أن يكون جزءًا من سفينة مايوركا السياحية حيث عمل كمتطوع قبل العودة إلى بلد الوليد. خلال هذه المرحلة الجديدة، تمكن من التخرج فى كلية التجارة ودراسة القانون، فى نفس الوقت الذى سمح له فيه تسجيله فى مدرسة الفنون والحرف فى بلد الوليد بأن يكون عُين رساما للكاريكاتير فى عام 1941 لصحيفة El Norte de Castilla.

 فى عام 1946 تزوج من أنجيلس دى كاسترو والتى أشار إليها فى مناسبات عديدة باعتبارها «أعظم إلهامه».

بعد استقراره كأستاذ قانون،  بدأ ديليبس فى كتابة أول عمل له، «ظل السرو ممدود»، وهو عمل حصل من أجله على جائزة «نادال» عام 1947.

جاءت أعماله الأخرى بعد ذلك مثل «Still is by Day»، التى تم حظرها عندما تم نشرها فى عام 1949، أو «El camino»، فى عام 1952.

كانت فترة  الخمسينيات  من القرن الماضى واحدة من أكثر فتراته غزارة، مع نشر أعمال أخرى مثل اللعبة، ومذكرات صياد (الفائز بجائزة السرد الوطنية) أو يوميات مهاجر، وقصص وجودية لكبار السن.

وكانت الستينيات هى ذروة ديليبس كمؤلف فنجد رواية الفئران، الحائزة على جائزة النقاد وخمس ساعات مع ماريو الذى يعتبر أفضل كتاب له 

فى السبعينيات، جرى تسميته عضو الأكاديمية الملكية الإسبانية والجمعية الإسبانية للأمريكيين، تميزت السنوات التالية بالتكيفات السينمائية والمسرحية المختلفة لأعماله، حيث نجحت النسخة المسرحية من خمس ساعات مع ماريو بطولة لولا هيريرا فى نهاية السبعينيات.

الثمانينيات تعنى تعزيز مسيرته المهنية مع نشر أعمال مثل Los santos inocentes أو شهادات تقدير مثل جائزة أمير أستورياس. أصبح عمل ديليبس مرجعًا أدبيًا مهمًا ليس فقط فى إسبانيا، ولكن على الجانب الآخر من المحيط الأطلسى، حيث قام بتصدير صوت مؤلف سيحل شفقه فى عام 1998، وهو العام الذى تم فيه تشخيص إصابته بسرطان القولون، وهذا سبب وفاته فى 12 مارس 2010.

وتعد رواية «الهرطوقى» آخر عمل له وتم نشره فى عام 1998 وهو تكريم واضح لموطنه الأصلى بلد الوليد فى زمن كارلوس الخامس، فى القرن السادس عشر. وقت تميزت فيه حرية الفكر إصلاح لوثر من خلال عيون التاجر سيبريانو سالسيدو.

وهذه الرواية، على الرغم من زمانها، تسعى إلى الهدف نفسه الذى تحمله باقى روايته: الوحدة والحب وانعكاس أولئك الذين يجرؤون على التحرر فى عالم مفروض.

وتعد هذه الرواية أنشودة عن التسامح وتحرير الوجدان، فهى تروى قصة رجل وشغفه الذى دفعه للانخراط فى الحياة.

فى هذه الرواية الحائزة على جائزة بريميو الدولية، وهى أرفع جائزة أدبية فى إسبانيا، يأخذنا ميجيل ديليبس إلى القرن السادس عشر فى إسبانيا. حين علَّق مارتن لوثر أطروحاته الخمس والعشرين على باب إحدى الكنائس، وأطلق حركة ستقسم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

وفى تلك اللحظة وُلد طفل تحدَّد مصيره بالثورة السياسية والدينية التى نمت جذورها فى ذلك الوقت فى أوروبا. توفيت أمه أثناء ولادته واعتبره أبوه مسئولًا عن موتها فنفر منه وانفصل عنه. كان مصدر العاطفة الوحيد لسالثيدو هى مرضعته وحاضنته مينرفينا. كبر الطفل فى ظروفٍ قاسية، لكنه أصبح تاجرًا ناجحًا وانضمّ إلى حركة الإصلاح الدينى،  التى كانت تنتشر سريًّا فى شبه جزيرة أيبيريا، المعقل التاريخى للكنيسة الكاثوليكية، حيث أنشئت محاكم التفتيش الإسبانية التى قامت بأعمال مرعِبة فى ملاحقة الإصلاحيين والتنكيل بهم.

من خلال قصة سالثيدو يرسم ديليبس صورة قوية لتلك الفترة من تاريخ إسبانيا، ويعيد بدقة ملفتة وحِرفية فنية عالية، خلق جو أوربا الثقافى والاجتماعى فى فترة تاريخية شكّلت مرحلة لا تُنسى فى التاريخ الأسود للاستبداد الدينى،  وفى تاريخ أوروبا.

إن «الهرطوقى» تتناول حقبة مهمة من التاريخ الأوروبى الحديث والإصلاح الدينى والصراع بين المذاهب المسيحية فى أوروبا وإسبانيا تحديدا فى النصف الأول من القرن السادس عشر، ومحاكم التفتيش وشهداء العقيدة اللوثرية أو المهرطقين كما كانوا يُتهمون ويُعاقبون.

عاشت عائلة ثيبريانو برناردو سالثيدو، الابن الوحيد للدون برناردو، فى بلد الوليد حيث كانت ولادته بعد طول انتظار فى عائلة عُرفت بضعف إنجابها ليولد الابن الوحيد ثيبريانو لتموت أمه بعد أيام قليلة.

هذا اللقاء بين الموت والحياة، هو الذى سيرسم حياة لثيبريانو فحضوره الجالب للموت، أو كما سماه أبوه الصغير قاتل أمه، وترتّب عليه أيضا تشكل ملامح علاقة الأب برناردو بابنه، العلاقة التى لم تتكون فيها أى أواصر للأبوة والبنوة ولا الحب والعاطفة التى قد تربط أى والد بوليده. 

قُسِّمت الرواية إلى ثلاثة فصول رئيسة، لكنه يبدأها بالنهاية حيث عرض رحلة ثيبريانو إلى ألمانيا، وهى الرحلة التى حدثت فى السنوات الأخيرة من حياته.

ينتاول الفصل الأول (السنوات الأولى) حياة دون برناردو وزوجته والثانى يتحدث عن (الهرطقة) فى الرواية، حيث يصف حياة ثيبريانو الصغير فى مدرسة اللقطاء الداخلية التى أرسلها إليه والده فى نوع من التأديب وتعليم الحياة وفى الوقت نفسه تحمل الانتقام من الصغير قاتل أمه.

يقضى ثيبريانو فى مدرسة اللقطاء ثلاث سنوات يتعلم فيها ما أمكنه أن يتعلم ليبرز بين أقرانه بذكائه وقوته على الرغم من صغر حجمه ونحافته، يموت والده فى سنته الثالثة فى المدرسة بسبب الطاعون الذى ضرب المدينة، ليتخرج فى المدرسة بعدها ويعيش مع عمه وزوجته حتى بلوغ رشده وإدارة أملاك أبيه.

تتشكل هوية ثيبريانو فى المدرسة من عدة مواضع دينية وأخلاقية وحياتية وجسدية وتعرّفه على أنماط مختلفة من العالم الشاسع ومن هنا تبرز أهمية الفصل الثالث والذى تحدث فيه المأساة فى الرواية، ويجسد الأزمة الحقيقية وتلتقى فيها ذروة أحداث القصة والتاريخ المسيحى والصراع الدينى ومحاكمة المعتنقين للمذاهب المسيحية غير الكاثوليكية كاللوثرية.

ويبدأ الفصل عندما بدأ ثيبريانو مرحلة جديدة فى حياته الإيمانية ببدء تقبله عقائد مسيحية جديدة باعتناقه المبادئ اللوثرية وإنكاره وجود المطهر، وذلك وفقا للمعتقد اللوثرى حيث هذا الإيمان الجديد الذى منح ثيبريانو السكون والراحة بعد أن كان فى تقلبات ونزاعات دينية وروحية لم تهدأ إلا مع اعتناقه الأفكار الجديدة.

لكنَّ سلطة محاكم التفتيش كانت أعلى ويدها الطولى تمكنت من الوصول إليه وجماعته وإلقاء القبض عليهم لتنهى بعدها المحاكمة والسجن والتعذيب حياتهم ما بين الحبس والقتل خنقًا بالدخان وحرقًا أمام الجموع فى مشهد مؤلم يجسد معاناة كل من خالف الكنيسة فى تلك الحقبة ليطرح فى النهاية تساؤلا عن فداحة قتل المرء بسبب معتقداته وما يؤمن به بغض النظر عن كونه على حق أو خطأ.

إن رواية «الهرطوقى» تعد سيرة ذاتية لكل شخص تعرض للاضطهاد والتعذيب فى تلك الحقبة والتى تعد من أسوأ فترات الكنيسة الكاثوليكية، وعلى الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية أذاقت المرار فى تلك الحقبة للوثريين وكان من المتوقع والبديهى أن اللوثريين الذين ذاقوا الاضطهاد أنواعًا وصنوفا لا يمارسون مثل تلك الممارسات بل كان من المفترض أنهم جاءوا لينشروا مذهبًا جديدًا يحمل راية الحرية فى الفكر والمعتقد، فإن هذا التصور هدمه الكاتب العالمى «ستيفن زفايغ» فى كتابه «عنف الديكتاتورية» وهو ما سنتحدث عنه فى الحلقة المقبلة بإذن الله.