
حسن عيسى
كدهوّن!.. شادية..ذات ألف وجه
شادية عصفور وسط الصقور يغرد منفردا خارج السرب ويحلق دائما فوق القمة دون أن تتورط فى أى صراعات شخصية أو فنية فاحتفظت لنفسها بابتسامة بنت العشرين الخجولة وبعثت لجمهورها ملامح الأنثى الشهية المغلفة بالبهجة حصنت فنها بوجه ملاك وقلب جسور لا يخشى المجازفات بقدر ما يستوعب التطور والتجديد فى الشكل والمضمون بمنتهى المرونة تنتقل من مرحلة لأخرى وحملت بين طياتها أسباب خلودها فصارت فؤادة أيقونة الحرية والمقاومة فى كل العصور تنادى يا أم الصابرين ويا حبيبتى يا مصر وقت أن كان الجميع يطلق عليها العربية المتحدة.
كدهون شادية سيدة ذات الألف وجه لعبت كل الشخصيات الدرامية ولم تحبس موهبتها فى إطار واحد فبعد أن قدمت الدلوعة اقتحمت الأدوار الميليودرامي التى سادت فى فترة الخمسينيات ومزقت قلوبنا معها فى فيلم المرأة المجهولة وهى تبكى ابنها الوحيد وتحضن مخدتها الصغيرة وتغنى بصوت جريح : سيد الحبايب يا ضنايا أنت.. ونجحت نجاحا ساحقا ولم تخش على جماهيريتها من أدوار الشر مثل معظم نجمات عصرها فلعبت الزوجة الخائنة فى فيلم (ارحم حبى) إخراج بركات والزوجة القاتلة فى فيلم (الطريق) مع المخرج حسام الدين مصطفى ومدمنة مخدرات فى فيلم (لا تذكرينى) للمخرج محمود ذو الفقار والعاهرة فى فيلم (زقاق المدق) إخراج حسن الإمام وعادت وقدمتها مرة أخرى فى فيلم (نحن لا نزرع الشوك) إخراج حسين كمال وتقبلها الجمهور كما تقبلها دلوعة مع كمال الشناوى وشقية مع إسماعيل ياسين وشكوكو وحبيبة مع عماد حمدى وشكرى سرحان (والتلميذة) أمام حسن يوسف وإخراج حسن الإمام وبرعت فى مجموعة الأفلام الكوميدية مع المخرج فطين عبدالوهاب فقدمت معه أدوارًا يتذكرها الجمهور عن ظهر قلب حتى يومنا هذا ويستمتع بها ربما لأنها أفلام قدمت قضايا اجتماعية يعانى منها المجتمع بتناول مرح وخفيف الظل بعيد عن المباشرة والخطابة رغم جدية الموضوع المطروح فى العمل فعلى سبيل المثال نجدها فيلم الزوجة الـ13تناقش تعدد الزوجات ولو بأثر رجعى فترضى أن يشاركها فى زوجها أى امرأة أخرى وتتحايل بشتى الطرق حتى تضمن إخلاص زوجها لها وعدم زواجه من أخريات .. وكدهون وفى فيلم مراتى مدير عام نجدها تتخلص تماما من أنوثتها التى اشتهرت بها على الشاشة ولم تقدم أى أغنية أيضا فى مجازفة كبيرة منها لأن جمهورها يريدها مطربة بجانب التمثيل فقدمت شخصية عصمت المدير العام الجادة الطموحة التى تنجح فى إدارة مؤسسة حكومية وتحقق كل أهدافها بحزم رغم أن زوجها يعمل لديها فى نفس المؤسسة إلا أنها تنجح فى تجاوز تلك المشكلة بدعم من زوجها هو شخصيا والذى لعب الدور أمامها زوجها فى ذلك الوقت صلاح ذو الفقار الذى عاد فقدم معها كرامة زوجتى وهو موضوع فى غاية الحساسية فى مجتمعنا الشرقى المتحفظ دائما على حق المرأة فى المساواة مع الرجل نجد الجمهور يتقبل من شادية جملتها الصادمة (ولو خنتنى هاخونك) رافعة شعار المعاملة بالمثل بين الزوج والزوجة وهو شعار لا نستطيع أن نقدمه الآن على الشاشة وإلا ثارت على صناع العمل كل وسائل التواصل الاجتماعى وقد تحدث أزمة عارمة وتستمر شادية مع صلاح ذوالفقار والمخرج فطين عبدالوهاب فى تقديم كوميديا هادفة مغلفة بالمرح والمتعة فتقدم فيلم عفريت مراتى والذى أوضح حق الزوجة وربة المنزل فى الاهتمام والرعاية من زوجها حتى لا تتحول الزوجة مع الوقت لمجرد شىء مهمل فى المنزل بلا شعور أو إحساس فتتحول الحياة الزوجية إلى مقبرة للحب، بنفس قدر براعتها فى تقديم الشخصيات الكوميدية المرحة نجدها تنجح فى تجسيد شخصيات الأديب نجيب محفوظ على الشاشة فتقدم حميدة فى زقاق المدق وشخصية كريمة فى فيلم الطريق وشخصية نور فى فيلم اللص والكلاب وشخصية زهرة فى فيلم ميرامار ثم تقدم أهم أدوارها على الإطلاق شخصية فؤادة فى فيلم شىء من الخوف إخراج حسين كمال أمام محمود مرسى ويحيى شاهين حيث عشق الجمهور ملامح فؤادة البريئة الهادئة أم عيون كحيلة وهى تفتح الهويس وبإصرار وعزم الرجال وبنظرة أمّ حانية بكل ما تملك من حب للحياة والرحمة لتتدفق المياه تدريجيًا وتتحول إلى شلالات تروى العطاشى وتنقذ الزرع وترد الروح للفلاحين الخائفين من جبروت عتريس وعصابته لتعلو زغاريد النساء ويرقص الرجال فرحًا بإنقاذ زرعهم ولتقف فؤادة بمفردها مُعلنة التصدى للقهر والظلم وكل سلاحها فى مواجهة عتريس هو الصمت العنيد ونظرة حزينة حائرة بين قلبها وضميرها، تلك النظرة التى زلزلت كيان عتريس وأسقطته من عليائه رغم امتلاكه لترسانة أسلحة كاملة إلا أنه هُزم أمام نظرة من عيون حبيبته .. وكدهون عاشت شادية فى وجدان المصريين إلى الأبد، ولم تكتف من المجازفات الفنية بكل ذلك القدر من التنوع والثراء فى التمثيل والغناء فاعتلت خشبة المسرح وتركت بصمتها الخالدة فى المسرحية الكوميدية ريا وسكينة أمام سهير البابلى وعبدالمنعم مدبولى والتى أصبحت من أهم ملامح التليفزيون فى الأعياد والمناسبات حيث انطلقت شادية تمثل وتغنى وترقص وكأنها تعيد اكتشاف نفسها مرة أخرى وهى فى عمر الخمسين فتنطلق على خشبة المسرح تنشر البهجة والفرحة فى نفوس جمهورها الذى ضحك من قلبه وهى تقول لمدبولى بأداء كوميدى لطيف؛ فاكر ليلة جوازنا يا حسب الله؟ وخبط بالعقل .. وكدهون وكما تطورت فى التمثيل فعلت نفس الشيء فى رحلتها مع الغناء فبعد أن كانت تقدم أغانى خفيفة مع محمد فوزى ومنير مراد ومحمود الشريف من نوعية سوق على مهلك وواحد اتنين أنا وياك يا حبيب العين ودبلة الخطوبة أصبحنا ندوب ونحب مع صوتها الشجى النبيل وهى تشدو بألحان بليغ حمدى والموجى خلاص مسافر وآخر ليلة وقولوا لعين الشمس ما تحماشى وغاب القمر وتستمر فى المجازفات الفنية فتتعاون مع ملحنين شباب فى ذلك الوقت فتقدم الملحن خالد الأمير فى أكثر من أغنية منها اتعودت عليك ومحمد على سليمان فى أغنية أصالحك بإيه وإبراهيم رأفت فى أغنية أنا وقلبى يا روح قلبى ومع عمار الشريعى رائعتها غير المتكررة فى الغناء المصرى (أقوى من الزمن) حيث تناقش فكرة فناء الأشخاص وبقاء الوطن من صياغة الشاعر مصطفى الضمراتى وتتوالى أغانيها الوطنية الواحدة تلو الأخرى وتوجتها بأغنيتها الشهيرة مصر اليوم فى عيد من ألحان جمال سلامة احتفالا بعودة سيناء إلى حضن الوطن ويأتى مسك الختام بأغنيتها الدينية (خد بأيدى) ألحان عبدالمنعم البارودى فى حفل الليلة المحمدية بالإذاعة ويأتى وقت الراحة والهدوء بعد حياة صاخبة وعمل متواصل بدأته مراهقة عمرها 16 سنة فكان الاعتزال فى عمر الـ57 لتقفل صفحة من أهم وأجمل صفحاتنا الفنية والإنسانية كدهون أسطورة شادية تكمن فى أنها تعاملت باحتراف فى كل مراحل حياتها فعندما دخلت الفن أبدعت وتربعت على قمته لأربعين عاما وعندما اعتزلت اختفت تماما عن الأنظار لمدة ثلاثين عاما فى صمت جليل حتى رحلت فى هدوء فلم تتبرأ من تاريخها الفنى ولم تسئ إلى زملائها ولم تتاجر بحجابها أو تخلعه ولم تدع العلم ولم تتحول لداعية إسلامية أو تقدم برامج دينية بالتليفزيون ولم تحرم الفن أو تلعنه بالعكس قالت إن موهبتها كانت هبة من الله وحافظت على صورتها الجميلة فى عقل وقلب الجميع وهكذا صنعت أسطورتها وكدهون سلاما لروحها فى ذكرى وفاتها.