الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. شمس الشموس.. وذكرى الصبوحة

كدهوّن!.. شمس الشموس.. وذكرى الصبوحة

اعتاد المجتمع العربى قديمًا أن ينظر نظرة قاسية للمرأة الشابة الجميلة كعَروس بلاستيكية لمتعة الرجُل وتسليته فقط أو وسيلة للإنجاب للحفاظ على الجنس البشرى من الانقراض، ولكنها تظل من وجهة نظر المجتمع الذكورى مجرد مخلوق جميل بلا عقل أو شخصية أو طموح وتقل قيمتها تدريجيًا كلما تقدَّمَ بها العُمر حتى تتحول تدريجيًا المرأة على الهامش فتعيش فى الظل وتعتزل الحياة وتتفرغ لمداعبة أحفادها (إذا وجد) وتتحسر على جَمالها المنصرف وبعضهن يسعدن بتخلصهن من عبء أنوثتهن كى يتخلصن من مراقبة المجتمع لهن ونظرة الاتهام المُعَدة مسبقًا لأى امرأة جميلة بأنها أداة إغراء الرجال وكِدَهُوَّن.



 

 إلى أن ظهرت الصّبوحة الشّحرورة لتشرق شمس جديدة لامرأة جميلة ذات روح حُرّة تقدس أنوثتها وتحترم كرامتها واستقلالها وتصر على التواجد والنجاح فى عملها لآخر لحظة فى عمرها؛ بل وترتبط برجال يصغرونها بالعمر على غير المعتاد فى المجتمعات الشرقية التى تصر على ارتباط الرجل بعروس تصغره بسنوات فتعيد صياغة الواقع الشرقى فى ذلك الوقت بهدوء وعلى نار هادئة ومن دون شعارات جوفاء أو هتافات رنانة تقدم للمجتمع نموذجًا لمرأة عصرية جميلة تستطيع أن تحقق نجاحًا ساحقًا فى مجالها الفنّى وأن تستمر على القمة رُغم تقدُّمِها فى العمر وفى الوقت نفسه التعامُل بندّية مع الرجل فترفض فكرة الخضوع لسيطرة الرجال فى مجتمع ذكورى يعشق المرأة سرًا وخلف الأبواب المغلقة، ويحتقر أنوثتها فى العلن ويخنق حريتها، وهذا ما رفضته الصّبوحة دائمًا وأبدًا فعاشت حياتها كما أرادت وكما خططت لنفسها منذ أن تركت بلدَها لبنان وقدمت للقاهرة عاصمة الفن العربى لتحتل مكانة مميزة جدًا بجانب كل النجمات القادمات للقاهرة ويحلمن بالشهرة والأضواء والثراء وكِدَهُوَّن.. إلا أنها تميزت عنهن باستمراريتها واندماجها فى الحياة المصرية حتى اعتقد البعضُ أنها مصرية قلبًا وقالبًا رُغم أنها أول من قدّم الغناء اللبنانى فى الأفلام المصرية فى ذلك الوقت ويتقبلها منها الجمهور العربى فى كل مكان رُغم صعوبة اللهجة اللبنانية ولكن مَحبة الصّبوحة كانت جواز سفر لعبور تلك الأغانى والألحان للوصول لقلبه حتى لا تَعذّر عليه فهم كلماتها وكِدَهُوَّن.. الشّحرورة عشقت الحياة فى مجتمع يقدس الموت ويرى فى اللون الأسْوَد وقارًا وفى الكآبة حشمة وفى التجهم عقلانية فأعلنت علينا الحياة بكل صخبها وتنوعها ونشرت خطوطها الذهبية فى كل مكان فى عالمنا العربى ليتلون بنورها وأطلقت ضحكتها الرنانة فى وجه العابسين، ولهذا لم تَسْلم أبدًا من تنمّرهم عليها وسُخريتهم من تشبثها بشبابها الدائم رُغم أنها لم تخفِ عمرَها الحقيقى عن جمهورها ولكن راهنت على شباب روحها الدائم فلم تعبأ كثيرًا باتهامها بالتصابى وبتعدد الأزواج؛ خصوصًا الزواج بشباب أصغر منها فى العمر وكأنها تعمدت أن تكسر صورة المرأة العربية المستكينة لقدرها وعادات وتقاليد مجتمعها فرفضت خضوع المرأة لأى رجُل طالما كان له سُلطة عليها، وهذا ما عاشت الصّبوحة ترفضه دائمًا فى علاقتها بالرجُل بشكل عام فرفضت خيانته لها مَهما بلغت قوته ونفوذه وثراؤه ومَهما بلغت درجة عشقها له كانت دائمًا تصر على الانفصال بشكل قاطع ونهائى، كما رفضت أيضًا خضوعها لأوامر الرجل حتى لو كان هذا الرجل هو رشدى أباظة فلم تضعف أمام حبها له وغرامها به الذى جعلها تتزوجه رُغم زواجه فى ذلك الوقت من سامية جمال، ولكن عندما أراد أن يتدخل فى حياتها ويثير الأزمات والمشكلات بسبب غيرته عليها وإصراره على خضوعها له حتى ولو على حساب عملها وفنها تفاجأ «رشدى» بامرأة أخرى قوية الشخصية تقدس حريتها وتحترم عملها وتفصل بين حبها له ورفضها أن تتحول لجارية لا تملك من أمرها شيئًا فطلبت الطلاق بعد أيام من الزواج، ولم يستوعب رشدى أباظة الموقف عندما طلبت من سائق السيارة الوقوف على جانب الطريق ونزلت من سيارته تسير بمفردها فى الطريق بكل شموخ الأنثى التى تعتز بشخصيتها وتضعها فى المقام الأول وقبل قلبها.. وتكرّر الأمْرُ كثيرًا بعد ذلك عندما تزوجت من سياسى لبنانى طالبها باعتزال الفن كان الطلاق هو ردها القاطع، وكذلك فعلت مع زوجها الإعلامى المصرى عندما طلب منها الاعتزال والتفرُّغ لحياتها معه ففضّلت الانسحابَ من حياته لتظل شمسُها تشرق كل صباح لتسعد جمهورها فى كل العالم العربى، مؤكدة على أن السيدة الناجحة عندما تترك عملها وتضحى باستقلالها من أجل رجُل تحبه تتحول لأى شىء مُهمَل فى البيت وتفقد أهم الأسباب التى جعلت هذا الرجُل يحبها ويسعَى للارتباط بها وهو نجاحها فى عملها وتتحول لكائن محبَط لا يفعل شيئًا فى حياته غير انتظار عودة الزوج من الخارج.. وهذا ما رفضته الشّحرورة طوال عمرها، وكِدَهُوَّن.. وعاشت حياتها تصنع البهجة وتصدرها لكل البشر جيلاً بعد جيل حتى توهجت شمس الصّبوحة ومَلأت الدنيا بضيائها وزادت من حرارتها حتى أحرقتها هى نفسها فى نهاية المطاف فرضيت بقدرها المحتوم أوصت بأن تكون جنازتها راقصة ومرحة وكأنها تريد أن تزف لذلك المجهول الذى ينتظرها فى العالم الآخر.. وقالت فى أحد حواراتها لماذا نخاف الموت فربما كانت لنا حياة أجمل وأكثر بهجة مما كانت على الأرض وربما كانت حياتنا على الأرض مجرد فترة قصيرة كى نستعد لحياة أخرى أكثر سعادة؟ وكِدَهُوَّن.. لها فلسفة خاصة جدًا فى حياتها تجعلها تتعامل مع كل الحوادث بهدوء ورضا نفسى كبير يجعلها تتجاوزها بسهولة وبأقل قدر من الآلام؛ فلم تسمح بخيانة أزواجها أن تهز ثقتها بنفسها ولم تجعل من مأساة مقتل أمّها على يد أخيها أن يدمر سعادتها أو يقلل من بهجتها؛ بل ازدادت تمسكًا بالحياة وبالسعادة المنقوصة دائمًا.. فى أحد أحاديثها قالت إنى أغرم بشخص مُعين ولكنى عشت حياتى كأنها مجموعة إفلام سينمائية عندما تبدأ علاقتى برجل إقول لنفسى بدأت الآن الفيلم الجديد فى حياتى وعندما تنتهى حكايتى معه أقول لقد وصلت لنهاية الفيلم وأستعد لفيلم جديد وحكاية جديدة مع الحياة. وكِدَهُوَّن.. وهبت نفسَها للفن وللحياة وأبدعت فى تقديم الأغنية المصرية واللبنانية بجميع أنواعها وتعاملت مع كل الأجيال والمبدعين ولم تحسر نفسها فى لون غنائى واحد ولم تسجن موهبتها فى إطار محدد فتنوعت أعمالها وتطورت مع الزمن، وكانت من الشجاعة بأن تعلن بأنها لم تجيد الغناء إلا بعد مرور خمسة عشر عامًا على بدايتها؛ بل وتشكر الجمهور المصرى لأنه تحمّلها طوال هذه المدة حتى أجادت الغناء- على حد قولها فى أحد البرامج التليفزيونية- ولا ننسى طلتها السينمائية على الشاشة وما تمتعت به من سحر وجمال وأنوثة غير مبتذلة تغلف موهبتها الاستثنائية وأدائها التلقائى غير المتكلف فى أفلام عديدة صنعت لها الخلود، وكِدَهُوَّن.. سيذكر التاريخ أن حياة المرأة العربية ستؤرخ قبل «صَباح» وبعد «صباح»، فلا أحد يشك فى أن الشّحرورة الصّبوحة قد قلبت الموازين وكسرت القواعد وتحددت النظرة الذكورية للمجتمع والموروث الشعبى بأن للنساء عمر افتراضى كعمر الوردة لا بُدَّ لها بعد فترة توهجها وتألقها أن تنزوى وتختفى تدريجيًا مع تقدمها فى العمر، وكأن الشيخوخة هى عقاب إلهى لكل نساء العالم؛ خصوصًا نساء العرب، فلقد كان لدينا شّحرورة واحدة والآن صار لدينا شّحرورات كثيرات يتحدين الشيخوخة والاكتئاب والعزلة بمزيد من الحب للحياة والبهجة والجمال والأناقة.