الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. ميمى شكيب.. سيدة المتناقضات

كدهوّن!.. ميمى شكيب.. سيدة المتناقضات

عاشت ميمى شكيب حياتها كإحدى بطلات أساطير التراجيديا، تحمل بين طياتها عوامل فنائها، فقد حملت كل المتناقضات بداخلها وأخفتها خلف ملامحها الراقية الجميلة، فظل الصراع بداخلها طوال الوقت بين الصعود والهبوط وبين قسوة الحياة ومتعة الفن وبين الحب والحرمان، فقد منحها الله طلة الأميرات وعشقت هى حياة الصعاليك وأحبها الجمهور ولفظتها الحياة رغم عشقها لها وشغفها بها وهكذا استمر الصراع بداخلها حتى انتهت حياتها بمأساة إنسانية مريرة جديرة ببطلة تراجيدية فى الأساطير الإغريقية ظلت تسكب الدموع من عيونها ليل نهار حتى تتطهر من كل الخطايا التى ارتكبتها والتى لم ترتكبها ولم يغفر لها الجمهور رغم براءتها التى حصلت عليها من القضاء وكدهون.



 

 وفى كل الأحوال يظل حضورها الطاغى على الشاشة وملامحها الأرستقراطية ولهجتها المصرية المتأثرة باللغة الفرنسية وضحكتها الرنانة أهم ما يميزها فى وجدان جمهورها الذى عشقها فى السينما والمسرح وتخلى عنها فى الواقع عندما وقعت فى أزمة مصيرية عصفت بحياتها وبتاريخها بل وسخر من مأساتها بمنتهى القسوة وشطب تاريخها الفنى كله فى لحظة وكدهون ميمى شكيب النموذج المثالى للمشخصاتى التى تجيد تقديم كل الأدوار والشخصيات بنفس الكفاءة والجودة وقدمت الميلودراما والكوميديا مثلت للسينما وللمسرح ولم يشغلها أبدًا مساحة الدور الذى تلعبه، فربما يكون بطولة مطلقة وأحيانا مجرد ضيف شرف فى مشهد أو اتنين وقد تقدم دور سيدة مثيرة وفى نفس الوقت تلعب دور حما شريرة وكدهون شاهدتها لأول مرة فى حياتى عندما كنت طفلًا صغيرًا متعلقًا بفيلم «دهب» بطولة الطفلة المعجزة فيروز وأنور وجدى وأيقنت رغم طفولتى بأن ميمى شكيب هى الشريرة الطيبة ورغم عصبيتها وصوتها العالى نجحت طفلة صغيرة مثل فيروز أن تخدعها وتأكل التفاحة فى المشهد الشهير داخل فيلم دهب، بينما وقفت ميمى شكيب متسمرة فى مكانها وفيروز تأكل التفاحة قطمة قطمة، فانطلقت ضحكات الجمهور عليها وكدهون وتستمر علاقتى بميمى شكيب فى تصاعد مستمر خصوصًا فى المرحلة التى شاركت فيها بأفلام إسماعيل ياسين ومارى منيب وزينات صدقى كشريك أساسى فى صناعة البهجة والمتعة ومع الوقت اكتشف أن لها أدوارًا أكثر تعقيدًا من تلك الأدوار التى قدمتها فى الحموات الفاتنات، أو سى عمر أو حبيب الروح أو انت حبيبى بجانب طبعًا مجموعة لا يُستهان بها من أدوار زوجة الأب الشريرة غليظة القلب خصوصًا فى الأفلام الغنائية مع شادية وصباح ونور الهدى، فقد لعبت أيضًا دور الزوجة المتسلطة بمنتهى القوة ووقفت أمام يوسف بيه وهبى بندية تُحسد عليها فى فيلم (بيومى أفندى) حيث جسدت دور الخادمة اللعوب التى تتحول لهانم متجبرة لا تتردد لحظة فى توجيه الإهانات لزوجها والسخرية منه رغم أنه هو رب نعمتها وصاحب الفضل عليها، ثم عادت وقدمت معه نفس تلك الشخصية للزوجة المسيطرة من خلال الفيلم الكوميدى (البحث عن فضيحة) بنفس الإتقان والتقمص فقد كانت تمتلك القدرة على التلون والتشكل على حسب الدور الذى تقدمه بمنتهى البساطة وبعيدًا عن التشنج والافتعال كدهون وكأى مشخصاتى محترف لا تتوقف ميمى شكيب عند حدود السيدة الأرستقراطية التى أتقنتها وقدمتها كثيرًا، فتفاجئنا بتقديم دور مغاير تمامًا لما اعتاده الجمهور منها فى فيلم معلشى يا زهر أمام زكى رستم وسراج منير وشادية ومن إخراج بركات لتقدم دور الزوجة المصرية البسيطة الطيبة التى تشبه العديد من سيدات الطبقة المتوسطة المخلصة لزوجها الموظف الفقير ولأسرتها الصغيرة رغم الضغوط والمشكلات التى تواجهها تظل هى عمود البيت والسند الحقيقى لزوجها وأبنائها والداعم الأساسى لهم فى الحياة ونجحت ميمى شكيب فى إقناع الجمهور بهذا الدور ببساطة وتلقائية رغم بعده تمامًا عن طبيعة شخصيتها الأرستقراطية وكدهون يأتى الدور الآخر الذى لعبته باقتدار وحرفية أصعب على أى ممثلة أخرى أن تقدمه بكل هذه الخبرة وخفة الظل وهو دورها فى فيلم دعاء الكروان أمام فاتن حمامة وإخراج بركات وهو واحد من أصعب الأدوار الدرامية تعقيدًا وصعوبة حيث إنه ملىء بالمتناقضات، فهى غازية معتزلة وسليطة اللسان إلا أنها خفيفة الظل وطيبة القلب والأهم أنها تلعب دور المرشدة لبطلة الفيلم (آمنة) التى تكشف لها أسرار الحياة خلف الأبواب المغلقة وتقول لها بلسان امرأة محنكة:  «أن الرجالة زى السمك تجرى وراء الطعم وماتشوفش الصنارة» بينما تقف فاتن حمامة ومعها الجمهور منبهرين بخبرتها العميقة فى الجانب الخلفى للحياة، ومن هنا تأتى صعوبة الشخصية خصوصًا أنها بعيدة كل البعد عن التكوين النفسى لميمى شكيب التى ارتبطت لدى الجمهور بأداء شخصية الهانم المتعجرفة، فها هى تقوم بدور غازية من الصعيد الجوانى لديها من الخبرة الحياتية ما يجعلها تتحكم فى مصائر البشر وكعادتها نجحت ببساطة فى أداء الدور من دون أى افتعال أو تشنجات، قدمت دورًا فى غاية الصعوبة بمنتهى البساطة وخرج الجمهور يردد جملتها الشهيرة لفاتن حمامة (شريف أوى المهندس) فرغم فجاجة الشخصية التى قدمتها لم يستطع الجمهور أن يكرهها بل أحبها وضحك من خبرتها بعالم الليل والرجال وكدهون استمرت ميمى شكيب فى إبهار جمهورها، فتقدم مع المخرج حسن الإمام واحدًا من أجمل وأغرب أدوارها وهو دور زبيدة العالمة فى ثلاثية نجيب محفوظ؛ حيث نفاجأ بها تهتز كما العوالم وتغنى بميوعة وابتذال وكأنها ربيبة شارع محمد على، وتمتلك من الجبروت ما يجعلها تتطاول على سى السيد شخصيًا بمنتهى الجرأة والبجاحة ولا تعبأ بقوة الشخصية التى يخشاها الجميع ولكنه يتحول لقط أليف فى حضرة العالمة زبيدة أو المشخصاتية ميمى شكيب وكدهون وتستمر فى مغامراتها الفنية فنراها فى فيلم السمّان والخريف تلعب دور معلمة قهوة بلدى إسكندرانية تشد أنفاس الشيشة باحتراف تحسد عليه وتسدى النصايح للبطلة حتى تتخلص من جنينها بطرق غير شرعية ومع المخرج حسام الدين مصطفى تقدم واحدًا من أروع أدوارها على الشاشة الفضية فى فيلم قاع المدينة حيث تلعب دور سيدة متصابية جميلة تتشبث بآخر رحيق الحياة تعانى من الفراغ والوحدة لتصبح فريسة سهلة لأى محاولة للإيقاع بها من جانب الرجال وهو دور مختلف تمامًا عن نوعية الأدوار التى اعتادت أن تقدمها لجمهورها ولكنها لعبته بمنتهى الحساسية والاحتراف وكدهون تنتهى سيرة ميمى شكيب أحد أهم المشخصاتية فى حياتنا الفنية بمأساة إنسانية كبيرة جعلت جمهورها يتخلى عنها ولا يتذكر غير قضيتها الشهيرة التى برأها منها القضاء وظل الجمهور يعاقبها حتى اليوم عن قضية لا نعلم تفاصيلها بعد، وهذا لا يمنع الجمهور من الاستمرار فى عشقها فى الخفاء كإحدى أيقونات الحب المحرّم فى حياتنا رغم أنه يدرك جيدًا حجم موهبتها الطاغية وينبهر بجمالها الباهر بل إنه مازال يستمتع بأدوارها الرائعة التى لن تمحى من تاريخ السينما المصرية وعلى مسرح الريحانى لتعيش إلى الأبد بكل متناقضاتها فى وجدان المصريين كإحدى أهم الفنانات المصريات موهبة وحضورًا.