الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. خالتى صفية والإذاعة

كدهوّن!.. خالتى صفية والإذاعة

كان السؤال الذى يحيرنى فى طفولتى كيف لمجتمع شرقى إسلامى متحفظ خصوصا فى كل ما هو متعلق بالمرأة وملبسها وصوتها وخصوصا من جانب المتشددين دينيا بأن صوت المرأة عورة أن نجد العديد من الإذاعيات العظيمات ينطلق صوتهن صباحا ومساء عبر أثير الإذاعة دون أن يعترض أحد أو يثور المشايخ فى بدايات الإذاعة المصرية فى ثلاثينيات القرن الماضى بينما تعالت أصوات فى تسعينيات القرن الماضى وبعد أن حققت المرأة المصرية نجاحات ضخمة فى كل المجالات تطالب بعودة المرأة للمنزل وبأن صوتها عورة ! وأصبح السؤال ملحا على باستمرار -كيف اقتحمت المرأة المصرية الإذاعة وفرضت احترامها على الجميع فى مجتمع يعتبر صوتها عورة بل ونجحت فى أن تتولى منصب رئيس الإذاعة بعد ذلك أيضا.



 

نشأت فى منزل يعتبر الإذاعه جزءا لا يتجزأ من أسرتنا الصغيرة وخصوصا أمى رحمها الله ظلت على عهدها بالإذاعة حتى آخر يوم فى عمرها حيث اعتبرت جهاز الراديو هو صديقها الوفى الذى شاركها الحياة بحلوها ومرها وأمدها بالعديد من الأخبار والمعلومات أثناء قيامها بمسئولياتها المنزلية دون أن تضطر للتوقف والنظر إلى شاشته كما يحدث مع التلفزيون ولن أبالغ عندما أقول إن الإذاعة هى ما شكلت وجدانها.. وعيها وثقافتها فى كل المجالات فى وقت لم يكن للتلفزيون تلك السطوة على قلوب المصريين فقد اعتادت أمى أن تضع جهاز الراديو بجوار سريرها طيلة الوقت حيث تنطلق الأصوات الإذاعية والدراما والموسيقى والقرآن وكدهون وأنا بدورى عشقت الإذاعة منذ طفولتى وارتبطت وجدانيا بأصوات عديدة ربما لما أهتم وقتها بمعرفة أسمائها ولكنى كنت أحرص على متابعتها بانتظام وشغف كبير ربما أكبر مما يدركه طفل أو يستوعبه فى تلك الفترة، واعتقدت أن هذه الأصوات المنبعثة من الراديو ليست أصواتا بشرية ولكنها أصوات لكائنات نورانية من السماء ليست كالأصوات التى أسمعها فى الحياة لأهلى أو أصحابى أو أساتذتى فى المدرسة نظرا لجمال أصواتهم وتمكنهم من الإلقاء السليم ومع الوقت اكتشفت كنوز الإذاعة المصرية عمالقتها من من نقشوا بصماتهم على الحجر وصنعوا تاريخ الإعلام المصرى والعربى وكدهون كانت البداية مع عمو حسن ثم اكتشفت أبلة فضيلة وبرنامجها غنوة وحدوتة وفى أثناء انتظارى لإذاعة حلقاتها كان يتحتم على فى ذلك الوقت الاستماع إلى برنامج آخر لم أكن أعرفه وقتها (إلى ربات البيوت ) لأنه يذاع قبلة مباشرة وكانت أمى تحرص كل الحرص على الاستماع إليه كأحد الطقوس الصباحية المعتادة يوميا فى منزلنا حيث ينبعث صوت هادئ عميق لسيدة وقورة تنهى حلقاتها اليومية بجملتها الشهيرة: أختى المستمعة اتصبحى بالخير وكانت تلك الجملة غريبة على مسامعى فلم ألتق أبدا بأى شخص يقولها أو يرددها ولكنى اعتدت عليها من صاحبتها التى تأتى كل صباح كطيف جميل يحدثنا عن الأصول والصح والغلط فى التعامل مع الآخر فتقدم فقرتها الأولى بحديث للأسرة ككل يحمل فى طياته النصيحة والمعلومة والعظة حتى تعى الزوجة واجباتها الأسرية تجاه زوجها وأولادها ويعى الزوج حجم واجباته العائلية ثم تقدم حلقة من أشهر وأطول مسلسل إذاعى باسم عيلة مرزوق أفندى وهو ظاهرة إذاعية لم تتكرر أبدا بعد ذلك أن تصل حلقات مسلسل إذاعى لأكثر من أربعين عاما متواصلين وتعود صاحبة الصوت الرزين بعد حلقة مرزوق أفندى ومعها مشكلة من المشكلات التى ترسلها لها إحدى المستمعات عبر صندوق البريد وهى الوسيلة الوحيدة المتاحة فى ذلك الوقت للتواصل مع الإذاعة وتقوم صاحبة الصوت الوقور بعرضها والرد عليها بنفسها دون الاستعانة بخبراء ثم تأتى الفقرة الثالثة بموقف كوميدى بحلقات كوميدى باسم خالتى بمية بطولة ملك الجمل حيث تقدم من خلالها شخصية سيدة بسيطة جاهلة تقع فى العديد من الأزمات نتيجة لتصرفاتها وكدهون..

 

وكدهون دارت الأيام وأدركت أن صاحبة الصوت الوقور هذه هى السيدة صفية المهندس أول صوت نسائى مصرى وعربى ينبعث من الإذاعة المصرية عام 1945 فور تخرجها مباشرة من كلية آداب قسم لغة إنجليزية حيث شاهدها المسئولون عن الإذاعة أثناء اشتراكها فى عرض مسرحى على خشبة الأوبرا الملكية باللغة الإنجليزية واعتقدوا أنها فتاة إنجليزية لإتقانها التمثيل باللغة الإنجليزية وعندما علموا بحقيقتها طلبوا منها العمل بالإذاعة كأول مذيعة مصرية ينطلق صوتها بالجملة الخالدة ؛ هنا القاهرة وتستمر تكررها لمدة الخمسين عاما بعد ذلك حتى تولت منصب رئيس الإذاعة المصرية وهو منصب لو تعلمون عظيم فى ذلك الوقت وكانت أيضا أول امرأة تتولى هذا المنصب الخطير وكدهون وكعادة مجتمعاتنا الشرقية فالبدايات دائما صعبة وأحيانا قاسية فى ظل جمود العادات والتقاليد وعدم السماح للمرأة بالانطلاق والنجاح قررت صفية المهندس التحدى ومواجهة كل من اعترض على تعيينها كمذيعة فى الإذاعة بحجة أن صوت المرأة عورة ولا يصح أن ينبعث من المذياع أو الراديو حتى إنها عندما دخلت الاستوديو لأول مرة لتقدم الشيخ الذى سيتلوا القرآن على الهواء نظر لها ساخطا وقال لها: عايزة إيه يا حرمة ؟؟ فترددت قليلا ثم أجابته: أنا المذيعة إللى قدمت حضرتك للمستمعين فى فقرة التلاوة وهنا انفجر الشيخ غاضبا: ماعدتش ناقص كمان غير (مرة) اللى هاتقدم التلاوة وكمان هايتقفل علىَّ وعليها باب الاستوديو؟ وقبل أن تستوعب المذيعة الشابة تلك الصدمة خرج الشيخ وهو يصب اللعنات عليها وعلى الإذاعة ويحلف بأغلظ القسم بعدم عودته مرة أخرى للإذاعة المصرية بعد اليوم الذى دخلت الحريم باستوديوهاتها وأفقدوها وقارها من وجهة نظره وكدهون.

لم تستسلم صفية المهندس وأصرت على المضى قدما داخل الإذاعة المصرية كأول مذيعة يغرد صوتها: هنا القاهرة بل واقتحمت أيضا مجال التمثيل الإذاعى لما لها من خبرة فى المسرح الجامعى فشاركت فى العديد من المسلسلات الإذاعية.

عشقت صفية المهندس الإذاعة بشكل لا حدود له، وهو ما جعلها ترفض كل إغراءات الصورة والظهور من خلال التليفزيون، فى العام،1960 إلا أنها رفضت بشكل قاطع مغادرة موقعها خلف ميكروفون الإذاعة، وظلت وفية طوال رحلتها معه.

وكدهون وكعادة التطور فى كل مكان استوعب الجميع خروج المرأة للعمل العام وبأن صوتها ليس عورة كما يدعى زعماء الرجعية بذلك وتنجح صفية المهندس فى فتح باب الإذاعة للمزيد من النساء المصريات اللاتى حفرت أسماءهن بالذهب على جدران الإذاعة المصرية.