الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. بين كتابَىْ «الله والإنسان» و«الشفاعة».. وصولًا إلى مسلسله أزمات «مصطفى محمود» بين الحياة والموت

الطريق الثالث.. بين كتابَىْ «الله والإنسان» و«الشفاعة».. وصولًا إلى مسلسله أزمات «مصطفى محمود» بين الحياة والموت

جذبتنى جرأته وحيوية أفكاره، كنت مراهقًا يلهث وراء الفهم والمعرفة، وكانت كتبه هى أول طريقى إلى الثقافة، طاردت عناوينه فى المكتبات، «الشيطان يحكم»، «السؤال الحائر»، «المستحيل»، «فى الحب والحياة»، «على حافة الانتحار»، أقَلّبُ صفحاته فى شغف ومتعة، كان سببًا مباشرًا فى قرارات مصيرية غيرت مسار حياتى من الهندسة إلى الصحافة، وكان صوته مرشدى فى كل قصص الحب الفاشلة، وشكلت آراؤه الفلسفية، أول «بروفة» رسمتها لفهم الدنيا.



جذبتنى جرأته وحيوية أفكاره، كنت مراهقًا يلهث وراء الفهم والمعرفة، وكانت كتبه هى أول طريقى إلى الثقافة، طاردت عناوينه فى المكتبات، «الشيطان يحكم»، «السؤال الحائر»، «المستحيل»، «فى الحب والحياة»، «على حافة الانتحار»، أقَلّبُ صفحاته فى شغف ومتعة، كان سببًا مباشرًا فى قرارات مصيرية غيرت مسار حياتى من الهندسة إلى الصحافة، وكان صوته مرشدى فى كل قصص الحب الفاشلة، وشكلت آراؤه الفلسفية، أول «بروفة» رسمتها لفهم الدنيا.

وتباعدت المسافات بينى وبين أفكار الدكتور مصطفى محمود؛ بسبب تطور أفكارى وتنوع قراءاتى لكتّاب ومفكرين مصريين وعرب أثروا الفكر الإنسانى، أعدت بهم ومعهم رسم تصورات مختلفة للحب والحياة، وبقيت فى نفسى ذكرى أخيرة حزينة، سببها محادثة تليفونية (يتيمة) بينى وبين المفكر الراحل، فى بداية مشوارى الصحفى، انتهت به منفعلًا بشدة يرفض إجراء أى حوار أو الإدلاء بأى تصريحات صحفية، أغلقت الهاتف مصدومًا من قسوة الكلام، ولم يستوعب عقلى وقتها الأزمة التى كان يمر بها، والصراع الذى كان يعيشه، والذى أوصله إلى عزلة تامة عاشها فى سنواته الأخيرة.

وأدين لـ«للسوشيال ميدبا» بمصالحتى على أفكار المفكر الراحل، بعد أن انتبهت لغزارة مقاطع الفيديو المأخوذة من حلقات برنامجه الشهير «العلم والإيمان»، وللعدد الكبير لمشاهدتها وانتشارها الواسع على مختلف تطبيقات (التواصل الاجتماعى)، فبدأت أشاهدها بعين مختلفة، ووجدتها تحمل أفكارًا طازجة وقادرة على التفاعل مع أجيال جديدة لم تعش فى زمن مصطفى محمود، ولم تتأثر بحملات دعاية دفعته إلى مقدمة المشهد الإعلامى فى عصر السادات، ومعظم عصر مبارك، فأعدت التفاعل مع مشروعه الفكرى، المنشور أو التليفزيونى، ووجدت فيه كنوزًا تستحق أن يعاد طرحها، وأفكارًا جريئة يؤسّس عليها فى مسألة تجديد الفكر الدينى فى مصر، ولعل من أبرز أقواله: «افتحوا النوافذ.. وجددوا هواء الفكر الذى ركد»، «لن تكون مُتدينًا إلا بالعلم.. فالله لا يُعبَد بالجهل».

وسألت الشركة المنتجة لمسلسل يحمل اسم «مصطفى محمود» ويستعرض سيرته، عن موعد البدء فى تصوير المسلسل الذى كتبه السيناريست وليد يوسف، والذى نتمنى إنجازه فى أقرب فرصة؛ تقديرًا للمفكر والعالم الراحل الذى غيّبه الموت قبل 13 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض، سبقه رحلة ممتدة من العطاء الفكرى والإبداعى.

للأسف لم أجد إجابة قاطعة، رغم حماس المنتج أحمد عبدالعاطى للعمل والذى يعتبره «مشروع العمر»؛ خصوصًا أن المسلسل حظى بموافقة شخصية من المفكر الراحل؛ بل كما علمت فإن هناك تعليقات كتبت بخط يده على مشروع العمل، بالإضافة إلى حصول المنتج على حقوق المِلْكية الفكرية من أدهم وأمل نجلَىْ الدكتور مصطفى محمود، كما أن النجم الكبير خالد النبوى صوّر (فيديو دعائيًا) تقمّص فيه ببراعة الشخصية وعرض للمرّة الأولى على موقع «YouTube» عام 2018 ، وحظى بمشاهدة وتفاعُل كبير من رواد «السوشيال ميديا»، يوازى ما تحظى به مقاطع الفيديو وأقوال المفكر الراحل من مشاهدة واسعة وشعبية كبيرة بين الأجيال الشابة من مستخدمى «الميديا الجديدة».

ولعل مرور ذكرى وفاة مصطفى محمود قبل أيام فى 31 أكتوبر، مناسبة للحديث عن مسلسل يتناول سيرته، يعلن بين الحين والآخر عن اقتراب بدء تصويره، ثم تختفى أخباره شهورًا، ويتجدد الوعد، ولا نصل إلى نتيجة، ربما هناك أسباب إنتاجية أو لوچستية تعوق ظهور المسلسل، وهى أمور يعلمها مَن هم فى مطبخ الإنتاج الدرامى فى مصر والعالم العربى، وحديثى ليس تدخلًا فى رؤيتهم أو رغبة فى إرباك أچندتهم الإنتاجية التى ربما تكون قد فضلت فى مصر أن تقدم سيرة الإمام الشافعى، وفى السعودية قصة الفتنة الكبرَى وحياة معاوية بن أبى سفيان، فى مسلسلين جديدين يعرضان فى رمضان المقبل، فى إطار توجُّه إنتاجى محمود بعودة الدراما التاريخية والدينية.

وكنت أتمنى وتماشيًا مع طموح الدولتين فى تجديد الفكر الدينى فى العالم الإسلامى، أن تستشعرا أهمية هذا المشروع الدرامى المعطل والمهم جدًا والذى يستعرض سيرة مصطفى محمود ويعيد تسليط الضوء على رؤيته الفكرية السابقة لزمانها، ومحاولاته لفهم عصرى للدين، وأطروحاته الفلسفية التى صنع بها مسارًا جديدًا للتفكير فى الدين والتفاعل معه بروح العلم، وما أحوجنا فى هذا العصر لإحياء مثل هذا الطريق، وتسليط بعض الضوء على «الطريقة» التى دشنها مصطفى واجتهد قلة من تلاميذه ومريديه فى استكمالها ولم يجدوا الدعم فى ظل سيادة النزعة المتطرفة على الفكر الدينى، التى اختطفت الإسلام لأكثر من نصف قرن.

وللدكتور مصطفى محمود 89 كتابًا منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى الروايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة، كما قدّم أكثر من 400 حلقة من برنامجه التليفزيونى الشهير «العلم والإيمان»، وأنشأ سنة 1979 مسجده فى المهندسين المعروف باسم «مسجد مصطفى محمود»، ويتبع له ثلاثة مراكز طبية، كما يضم المسجد جمعية فلكية ومتحفًا للچيولوچيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون. ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية.

وقد تركزت جهود مصطفى محمود خلال التسعينيات حول توضيح خطر الصهيونية، وخصص لذلك 9 من كتبه، تضمنت أطروحاته الفلسفية تجاه جذور الخطر وحاضره ومستقبله، لا يختزلها ما ذكره فى كتاب «إسرائيل البداية والنهاية»؛ حيث يقول إن: «إسرائيل تتصرف وكأنها تتعامل مع أصفار، وتتوسع وكأنها تمرح فى فراغ، وهذا الغياب للموقف العربى سوف تكون له عواقب وخيمة»، ويحذر المفكر المصرى الراحل من السلام الذى يسعى إليه الكيان الصهيونى، فى كتابه «على حافة الانتحار»؛ حيث يرى أن إسرائيل ليست لديها نية جادة للسلام بقدر ما هى راغبة فى تطويع وقبول من الطرف العربى لسلام من طرف واحد.

وتعرّض الكاتب والمفكر الراحل لأزمة كبيرة فى مستهل حياته الفكرية، عندما تمّت محاكمته بتهمة الكفر بسبب كتابه «الله والإنسان»، واكتفت المحكمة بمصادرة الكتاب فى عهد الرئيس عبدالناصر. ولم تكن إسرائيل آخر معاركه رحمه الله؛ بل دخل فى أزمة كبيرة بسبب كتاب «الشفاعة»، انتهت به إلى عزلة بدأت عام 2003 واستمرت حتى وفاته سنة 2009.

ورحل الجسد وبقى ما ينفع الناس، أفكار وكتُب المفكر الراحل وآراؤه الفلسفية العميقة والمؤثرة، والخالدة اليوم وغدًا، وأنتخب لكم واحدة من روائعه، ونختم بواحدة من أشهر مقولاته: «نحن قادمون على عصر القرود، فرُغْمَ هذا الكم من التكنولوچيا التى وصل إليها الإنسان؛ فإننا أصبحنا أمام إنسان أقل رحمة، أقل مودة، أقل عطفًا، أقل شهامة، أقل مروءة، وأقل صفاء من الإنسان المتخلف».