السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

لماذا أحمد زكى... ولماذا 86؟ "الحلقة الأولى"

كعادتها دائمًا كانت «روزاليوسف»- ولاتزال- تستضيف على صفحاتها تاريخ الفنانين وحكاياتهم.. نستكشف من مسيرة العمر ومشواره قصص الكفاح والحب والأمل والصعود.. لأننا نؤمن أن تاريخ البلد ووجدان الشعب ما هو إلا محصلة أيام ويوميات وحكايات رموزه.



يصحبنا فى هذه السطور الكاتب الصحفى الكبير محمد توفيق فى رحلة ممتعة مع فتى الشاشة الأسمر عبر كتابه «أحمد زكى86».. ونتيح لحضراتكم فصلًا من حياته وأحد أهم أعوامه زخمًا وفنًا وتأثيرًا.

ونحن بنشر الكتاب على فصول نؤكد أن حكاية فنان بحجم أحمد زكى هى ملك لكل محبيه وجمهوره.. بحلوها ومرها.. بما حققه من إنجازات وبطولات.. وبكل ما قابله من خذلان.. لأنه رمز كبير وهذا قدر الكبار.

 

“1”

 

مِثْلُ أىّ فيلم سينمائى، ستجد نجمَ شباك يتصدر الأفيشَ، وأبطالًا، وضيوفَ شرف، وأدوارًا ثانوية، وموسيقى تصويرية، ولوكيشن، ومُنتِجًا... لكنك لن تجد مؤلِّفًا أو مُخرجًا، فالقَدَرُ تكفَّل بكتابة وإخراج هذا الفيلم.

نجم الشبَّاك هنا هو أحمد زكى، وهو أيضًا المُنتج؛ فقد دفع حياته ثمنًا لهذا الفيلم.

وبصحبته ثلاث نجمات اسْتَأْذَنَهُنَّ كى يُكتب اسمُه قبلهن: سعاد حسنى، ونجلاء فتحى، وهالة فؤاد…

وطلب من العم صلاح جاهين أن يلعب دور والده، فرُغْمَ أنه لا يشبه وجهه؛ فإنه يُشبه قلبَه.

هذا إلى جانب عاطف الطيب ومحمد خان ووحيد حامد الذين تركوا مواقعهم خلف الكاميرا ليجلسوا أمامها، وأتت بصحبتهم مديرة جهاز الرقابة التى قررت أن تشارك فى هذا الفيلم رُغْمَ أنف الجميع.

وستجد ضيوفَ شرف كبارًا أمثال فاتن حمامة، وعادل إمام، ونور الشريف، ومحمود عبدالعزيز، ويحيى الفخرانى، ونبيلة عبيد، ومديحة كامل، وسمير غانم، وسعيد صالح، وحسن عابدين، ورغدة، وإيناس الدغيدى، وعمار الشريعى الذى يمكنك أن تختار إحدى مقطوعاته التى تسكن قلبَك ويتردد صداها فى أذنك لتصحبك طوال الكتاب.

وهناك ظهورٌ خاصٌّ لعَدد كبير من نجوم الستينيات الذين لا يزالون قادرين على العطاء فى الثمانينيات مثل نجيب محفوظ، وصلاح أبوسيف، وإحسان عبدالقدوس، ومحمد حسنين هيكل، ومصطفى أمين، وصالح مرسى، وفتحى غانم، ومحمود عوض، وعبدالرحمن الأبنودى، وسيد حجاب.

أمّا اللوكيشن فستجده حينًا مَدرسة ثانوى صناعى بالزقازيق، وحينًا مستشفى فى لندن، وأحيانًا يكون شارع الهرم!

 

“2”

وقد تسأل: لماذا أحمد زكى الآن؟

وأُجيبك؛ رُغْمَ أنى لا أملك جوابًا قاطعًا؛ فرُبَّمَا لأنه يسكن فى مساحة فى القلب لم يذهب إليها فنان سواه، ليس لأنه الأفضل أو الأشهَر أو الأذكى؛ فرُبّما تلك الألقاب تجد كثيرين ينازعونه عليها، وقد يتفوقون عليه؛ لكن لأنه الأصدق.

ورُبَّمَا لأن كلاً منّا يحمل جزءًا من أحمد زكى فى ملامحه، وأحلامه، وقلقه، وأرقه، وثورته، وبراءته، ومعاناته، ووحْدته.

ورُبَّمَا لأنه- كما وصفه عمُّنا خيرى شلبى- خامة نادرة من الأحجار الكريمة كالياقوت والعقيق واللؤلؤ والمرجان والزمرد، وصاحب مَدرسة (التشخيص بالإزميل) تلك المَدرسة التى تجعله يبدو بين الممثلين على أنه مشخِّص، ويتميز بين المشخِّصين، وهم قلة نادرة، بأنه نَحّات.

ورُبَّمَا لأنى أشعرُ أننا مَدينون له باعتذار أننا لم نضعه فى المكانة التى يستحقها وهو بيننا، فكعادتنا أدركنا أهميته بعد رحيله، وعرفنا حجمه بعد غيابه.

كان يصرخ ولا نسمعه، يغضب ولا يجد من يحتويه، ولا يظهر إلا للحديث عن فيلم جديد، فلم ينشر خبرًا عن سيارته الجديدة أو ملابسه الفاخرة أو طلته التى سيظهر بها فى مهرجان القاهرة السينمائى؛ بل كان يومه مُنْصَبًّا فقط على فنه، وإذا خرج فى رحلة بحث عن ملابس جديدة فغالبًا يبحث عن ملابس تناسب الشخصية التى يؤديها.

وإذا صادفته فى الشارع ستجده يرتدى البنطلون الچينز والـ(تِى شيرت) والصندل، ويغطى وجهه بنظارة سوداء كبيرة حتى لا يتعرَّف عليه أحد، ويراقب هو أفعال الناس وأنماط سلوكهم التى يُجسّدها على الشاشة.

ورُغْمَ كل النجاحات التى حققها؛ فإنه لم يتملكه يومًا إحساسُ النجم، فالناقد الرابض بداخله لم يرضَ عنه أبدًا، ولم يجعله يشعر بالراحة، ولم يُشعره بأنه نجم مطلقًا، ولم يمنحه قوة يضرب بها الأرضَ فخرًا، ولم يسمح له بأن يقف أمام المرآة مَزهوًّا بنفسه، ولم يمنحه فرصة الاستمتاع بطعم النجاح، ولم يجعله يذق حلاوة الشعور بنصر حاسم فى معركة فاصلة؛ بل جعله يبحث دائمًا عن أوجُه النقص فى الأداء لا أوجُه الإجادة والكمال.

 

“3”

رُبَّمَا تسأل الآن: لماذا إذْن عام 1986؟

بالطبع كان الأسهل والأضمَن أن أتناول سيرة أحمد زكى منذ ولادته حتى رحيله، لكنى اخترت عامًا واحدًا أتصوره من أهم الأعوام فى تاريخ أحمد زكى، إن لم يكن أهمّها، ومن أغرب الأعوام فى تاريخ مصر، إن لم يكن أغربَها!

وقد طالعت فى هذا العام الصُحفَ يومًا بيوم، والمَجلات الفنية والسياسية، الأسبوعية والشهرية، متتبعًا كل حَرْف يُنشر عن أحمد زكى.

وبعد أن انتهيت من رحلة البحث وقمت بحصر كل ما فعله وما كان يخطط له، سألت نفسى: متى ينام هذا الرجُل؟ وكم ساعة ينامها؟ وهل فى أثناء نومه يحلم بشىء سوى ما يفعله فى فيلمه الجديد؟

فلم يكن يمر أسبوع إلا وتجد اسم أحمد زكى يَطلّ من الصحف معلنًا عن عمل جديد، ولم يكن العمل مجرد فكرة فى رؤوس أصحابها، لكنه كان عملًا واضح المَعالم وخبرًا مكتمل الأركان فيه اسم المؤلف والمُخرج والمنتج وفريق العمل واسم الفيلم أو المسلسل ونبذة مختصرة عنه وموعد بدء التصوير.

فى هذا العام وحده قرأ أحمد زكى قرابة 50 سيناريو، واتفق بشكل مبدئى على بطولة 22 فيلمًا جديدًا، لكنها جميعًا لم تكتمل؛ بعضها بدأ تصويره، وبعضها اختلف مع مؤلفه، وبعضها لم يصل فيه مع المُخرج إلى اتفاق، وبعضها وجد أن المنتج لا يريد الفن بقدر ما يريد الربح.

وقد نشرت الصحف أخبار تلك الأفلام وتفاصيلها، وهى: (يوم قتل الزعيم)، و(جبل ناعسة)، و(شقى العمر)، و(باحبك يا مجنون)، و(رجل من الحى السادس)، و(سليمان الحلبى)، و(الباب الأخضر)، و(إمبراطورية الممنوع)، و(سمك لبن تمر هندى)، و(الحناكيش)، و(مَن قتل أمّ الخير؟)، و(شِفاه غليظة)، و(ألف ليلة بيضا)، و(لا يزال البحث جاريًا)، و(رأسًا على عقب)، و(صفحة من كتاب الحب)، و(النقطة 25)، و(سبانخ)، و(العروسة)، و(سكة سفر)، و(الأفول)، و(الراقصة والسياسى)، علاوة على مسلسلين تليفزيونين، ومسلسل إذاعى.

هذا بخلاف ثلاثة أفلام بدأ تصويرها هى: (زوجة رجل مهم)، و(أربعة فى مهمة رسمية)، و(المخطوفة)، وأربعة أفلام كان يتم عرضها فى السينما هى: (البرىء)، و(البداية)، و(شادر السمك)، و(الحب فوق هضبة الهرم)، هذا إلى جانب فيلمين من العام السابق، وقبل السابق هما: (سعد اليتيم)، و(الراقصة والطبال).

ورُغْمَ كل ذلك؛ فلم تكن هذه الأسباب وحدها وراء اختيار عام 1986، فلدىَّّ قائمة طويلة من الأسباب سأصرّح ببعضها، وستجد بعضها الآخر بين سطور الكتاب.

فرُبَّمَا اخترت هذا العام لأنه العام الذى أعاد فيه أحمد زكى حساباته بعد أن مرض، وجلس فى المستشفى أربعين يومًا، وشعر لأول مرّة بأنه قد يفقد حياته فى أى لحظة، ويترك ابنه هيثم وحده، ورُبَّمَا لأنه عام فيلم (البرىء) بكواليسه وكوابيسه، ورُبَّمَا لأنه من أكثر الأعوام إنتاجًا للأفلام فى تاريخ السينما المصرية.

ورُبَّمَا اخترته لأنه العام الذى وقَعَت فيه أحداث الأمن المركزى، وارتفع فيه سقف حرية التعبير فى السينما والمسرح والصحافة، ورُبَّمَا لأنه العام الأكثر تعبيرًا عمَّا جرى لمصر فى الثمانينيات كما عاشها المصريون لا كما يتذكرونها.

فهناك فارق كبير بين ما عشناه فى تلك الفترة وما احتفظت به ذاكرتنا الانتقائية عنها. فلم تكن الثمانينيات حقبة أفلام المقاولات، وذكريات الطفولة؛ فقبل أن أبدأ رحلة البحث فى هذا الكتاب كنت أظن أنى أعرف تلك الفترة جيدًا، لكن بعد أن انتهيت منه أدركت أن بعضَ الظن إثم.

 

“4”

فى إبريل عام 1986 ذهب المُخرج أحمد السبعاوى إلى أحمد زكى بفيلمين كلاهما يجسّد فيه شخصية رجل مريض.

الأول: اسمه (باحبك يا مجنون) تشاركه فى بطولته رغدة، وكتب قصته فيصل ندا، ويؤدى فيه «أحمد» دور مريض يتزوج من الطبيبة المعالجة.

والثانى: اسمه (النقطة 25) تشاركه فيه البطولة مديحة كامل، وكتبه فاروق سعيد، ويحكى عن ممرضة يُطلب منها قتل مريض؛ فتقرّر قتل مَن طلب منها هذا.

وفى أثناء استغراق «أحمد» فى قراءة دوره كمريض فى فيلم (باحبك يا مجنون)، شعر ببعض الآلام فى معدته فتجاهلها، وظن أن الدور قد انطبع عليه قبل أن يؤديه…

واستمر يمارس حياته بصورة طبيعية؛ فعاودته الآلام بصورة أكبر مما كانت عليه، فاضطر إلى أن يذهب إلى أحد الأطباء لكنه لم يصل إلى سبب الألم، فطلب منه الطبيب عمل بعض الفحوص لتحديد سبب الآلام التى تلازمه.

وعاد «أحمد» إلى الاستديو، ولم يسمع كلام طبيبه، وظلت السيجارة لا تفارق يده إلا فى أثناء نومه أو أمام الكاميرا فى المَشاهد التى لا تستدعى وجودها، وظل يتألم ولا يبوح بألمه لأحد، ويُمسك معدته متألمًا، ثم يتماسك حين يرى أحد زملائه قادمًا إليه.

أدرك «أحمد» أن تلك الآلام ليست مثل التى تعوّد عليها، فهى الآن أقوى وأشرس ورُبَّمَا أخطر، فقام بإجراء الفحوص الطبية المطلوبة منه، وذهب بها إلى الطبيب، ولكن لم تُظهر الأشعة بدقة ما يعانى منه، فتم تشخيص الحالة على أنها قُرحة فى المَعدة، وكتب له الطبيب بعض الأدوية، وحرص «أحمد» على تناولها فى مواعيدها؛ لكنها لم تفعل شيئًا، فقد ظلت الآلام على حالها لا تغادر جسده…

وبعد أيام علم «أحمد» أن صديقه الصحفى عماد أديب- الذى التقاه للمرّة الأولى فى بيت صلاح جاهين- سيسافر إلى لندن خلال أيام قليلة، فأعطاه الفحوص، وطلب منه أن يعرضها على الأطباء فى مستشفى «لندن كلينك».

لكن أديب أقنعه بأن يأتى معه إلى لندن فى زيارة سريعة لا تزيد على ثلاثة أيام يُجرى فيها الفحوص هناك، ويعرف تفاصيل حالته من الأطباء الإنجليز مباشرة.

ووافق «أحمد»، لكنه طلب بضعة أيام قبل أن يسافر إلى لندن يقوم فيها بإنهاء بعض المَشاهد قبل سفره، وتحامَل على نفسه، وعاش أيامًا على المُسكنات، وقرر ألا يغادر الاستديو حتى يُكمل تصوير الأعمال المُسندة إليه.

“5”

وبعد أن أنهى المَشاهد التى لا يمكن تأجيلها، صعد إلى الطائرة المتجهة إلى لندن، واتفق مع المنتجين أنه سيعود إليهم بعد أربعة أيام، ولم يكن يعلم أنه سيظل أكثر من أربعين يومًا بعيدًا عن الكاميرات.

وبمجرد أن وطأت قدَمُ «أحمد» لندن، وبعد أن وضع حقائبه فى الفندق، اتجه مباشرة إلى مستشفى «لندن كلينك» للاطمئنان على صحته، ووضع حد للآلام التى تؤرقه.

نزل «أحمد» من التاكسى أمام المستشفى الذى يشبه واجهتُه قصورَ الثلاثينيات ويتصدره عَلم بريطانيا، ورفع نظارته السوداء التى تغطى عينيه ليرى تلك البناية الأنيقة العريقة التى يكسوها اللون البُنِّى ويتداخل معه اللون الأبيض فى تناغم يُعبّر عن شخصية مستشفى تم تأسيسه قبل أكثر من نصف قرن، وزَاره عدد كبير من المَشاهير من بينهم عبدالحليم حافظ.

وعَبَر «أحمد» المدخل الرئيسى للمستشفى الذى تصطف على يمينه ويساره ست أشجار صغيرة الحجم، ودخل إلى حجرة الطبيب الإنجليزى الذى رأى الأشعة والتحاليل التى أتى بها من القاهرة، ثم قام بفحصه مجددًا، وطلب منه إجراء بعض الفحوص العاجلة، وعدم مغادرة المستشفى حتى يراه مرّة أخرى.

واستجاب «أحمد» لطلب الطبيب، وأجرى فحوصًا جديدة، وبمجرد أن ظهرت نتيجتها ذهب بها إلى الطبيب مرّة أخرى.

وبعد أن أمسك الطبيب الأشعة بيده، وحدّق فيها، نظر إلى «أحمد»، وأخبره بأنه لن يستطيع مغادرة المستشفى، وأنه لا بُدّ أن يقوم بإجراء جراحة عاجلة لاستئصال المرارة التى يوجد بها أربع حصوات.

حاول «أحمد» أن يقاوم ويشرح للطبيب أنه ليس مستعدًا لإجراء عملية جراحية الآن، وأنه فنان ولديه أعمال تنتظر قدومه وخسائر مادية يتكبّدها المنتجون إذا لم يَعُد سريعًا لإنهاء الأعمال العالقة، وطلب الحصول على أدوية تسكّن الألم حتى يعود إلى القاهرة؛ لينهى ارتباطاته الفنية ثم يعود مرّة أخرى إلى لندن.

نظر الطبيب الإنجليزى إلى «أحمد» ساخرًا، وقال له حاسمًا: «المرارة لم تعد تعمل منذ عامين... بل إنها تعفنت... ولم يعد ممكنًا أن تظل بجسدك... إذا تركتك تعود إلى بلدك قد تكون هناك خطورة على حياتك».

رُغْمَ الصّدمة وحِدّة الكلمات التى خرجت من فم الطبيب؛ فإن «أحمد» ظهرت عليه نصف ابتسامة ثم قال لنفسه: «دلوقتى أقدر أروح للى ضايقونى وأقولهم فقعتوا مرارتى»!

وانصاع «أحمد» لأوامر الطبيب، ووافق على إجراء العملية، وأجرى بعض الاتصالات بالقاهرة حتى يُبلغ المُخرجين والمنتجين الذين يعمل معهم أن عودته إلى القاهرة ستتأخر.

 

“6”

رُغْمَ الآلام التى كان يشعر بها «أحمد»، ورُغْمَ معاناته مع المرض، وحزنه أنه لن يعود سريعًا إلى القاهرة كما كان يظن، وغضبه أن تظل أعماله مُعلقة، وقلقه من إجراء عملية جراحية، وخوفه على ابنه هيثم الذى يمكث مع أمّه؛ فإنه شَعَر بأن الجلوس فى غرفة المستشفى فرصة لاستراحة مُحارب اقترب من شاطئ الأربعين دون أن يدرى.

مرّت السنوات بسرعة، رُغْمَ أن بعضها لم يكن يريد أن يمر، هناك أيام مرّت كالبرق، وأيام لم يتصور أنها ستمرّ، وها هو قد اقترب من الأربعين عامًا، وصارت لديه فرصة أن يعيد حساباته ويُفتش فى دفاتره القديمة التى تسكن رأسَه ولا تريد أن تغادره.

كان فِراش المرض رُغْمَ قسوته فرصة لالتقاط الأنفاس، وأن ينعم بقليل من الهدوء والسَّكينة، ويمارس هوايته القديمة فى التأمل التى لم تفارقه منذ كان تلميذًا فى «مَدرسة الصنايع».

كانت لحظات الاسترخاء فرصة لاستعادة ذكريات أربعين عامًا مضت، وكان الماضى بأحزانه فرصة للهروب من آلام الحاضر.

آن لـ«أحمد» أن يستريح جسده الذى أنهكه بدأبه وكثرة سعيه ومعافرته وجنون فنه. آن لوجهه الذى يغطيه بنظارة سوداء كبيرة أن يكفّ عن التعبير عن أشخاص آخرين.

آن لأعصابه المشدودة دائمًا العارية تمامًا مثل أسلاك الكهرباء المكشوفة فى شوارع القاهرة، أن تسترخى. آن لعروقه المنتفخة أن تستكين. آن لـ«أحمد» أن يمد قدمَه على سرير يعلم أنه لن يغادره سريعًا.

لكن عقله لا يريد أن يستريح، رُغْمَ أن الطبيب طلب منه أن يُريح نَفْسَه من التفكير؛ فإن هذا ليس واردًا فى قاموسه، فهو ليس قراره؛ فعقله يتحرك وحده، يُحلّق منفردًا، لا يستجيب لأحد، ولا سُلطة له عليه، ولا يمكن أن يمنعه من التحليق، والنبش فى الماضى، والتفكير فى الحاضر، والحلم بالمستقبل حتى إذا كان جسده لا يقوَى على ترك الفراش.