الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. حدوتة أبلة فضيلة

كدهوّن!.. حدوتة أبلة فضيلة

سرحتُ فجأةً أثناءَ مشاهدتى لأحد الفيديوهات على السوشيال ميديا وعدتُ فى لحظات لطفولتى وكأنى ركبت آلة الزمن التى أخذتنى للخلف أربعين عامًا وأنا أشاهد فيديو جميلاً لطفلتين صغيرتين لا تتجاوزان السابعة من عمريهما ترددان بمتعة كبيرة أغنيتى المفضلة فى طفولتى «ياولاد ياولاد تعالوا معايا علشان نسمع أبلة فضيلة راح تحكلنا حكاية جميلة هاتهننا وتنسينا وتنادى كمان على أسامينا.. أبلة.. أبلة فضيلة».



 

لتنتهى الأغنية بصوت الفنان على الحجار والطفلتان تتمايلان مع لحن الأغنية وترددان كلماتها فى نفس الوقت (دون أن تدركا بالطبع من هى أبلة فضيلة) وهما فى حالة اندماج كبير واستمتاع بالنغمات والكلمات العابرة للزمن فتسمعها طفلتان فى عشرينيات القرن الواحد والعشرين وتستمعتان بها وكأنهما تغسلان أذنهما مما أصابنا اليوم من كلمات أغانٍ ردئية ومعانٍ فجّة وقبيحة تخدش طفولتهما بمنتهى القسوة وربما الجهل باحتياجات الأطفال فى تلك المَرحلة من عمرهم لزرع القيم والأخلاق بداخلهم وسلوكيات إيجابية تحميهم فى المستقبل من أى انحراف أو تجاوزات قد يتعرضون لها وكِدَهُوّن.تتوقف البنتان فجأةً عن الحركة الراقصة مع انتهاء الأغنية وتجلسان فى هدوء وإنصات وكأنهما فى انتظار شخص عزيز وغالٍ لتأتى بالفعل أبلة فضيلة بصوتها الهادئ الحنون وكأنها تحتضن به كل أطفال العالم. وكِدَهُوّن.. يأتى صوتها عبر شريط كاسيت قديم فى جهاز تسجيل يعود إلى ثمانينيات القرن الماضى ولكنه لا يزال يعمل بكفاءة عالية جعلنى أعود معه لطفولتى البعيدة وأسرح للحظات مع هذا الفيديو الباعث على السعادة بداخلى وإن كان يشوبها بعض الشجن والحنين للماضى بذكرياته وشخصياته الجميلة التى رحلت عن عالمى بعد أن شكلت روحى ووجدانى بمحبتهم وعطائهم. وكِدَهُوّن.. رأيت نفسى طفلاً صغيرًا يجلس بجوار الراديو فى خشوع ولهفة أنتظر حلقة «غنوة وحدوتة» تأتى مباشرة بعد برنامج «ربات البيوت» الذى تقدمه الإذاعية الرائدة صفية المهندس أول امرأة تتولى رئاسة الإذاعة المصرية، وما أدراك ما هى أهمية الإذاعة فى ذلك الوقت (ومدى تأثيرها على قلب وعقل المصريين والعرب جميعًا، كيف جمعتهم على قلب رجل واحد) وفى أثناء انتظارى لأبلة فضيلة كنت أستمتع لبرنامج «ربات البيوت» وأتابع من خلاله حلقات أطول مسلسل إذاعى مصرى (عيلة مرزوق أفندى) ثم مواقف (خالتى بَمبة) الدرامية من بطولة الفنانة ملك الجمل لينتهى البرنامج بجملة السيدة صفية المهندس الشهيرة: «أختى المستمعة اتصَبَّحى بالخير».. وهنا يهتف مذيع الوصل: «هنا القاهرة»، فتبدأ نغمات رقيقة محببة إلى قلبى والتى أنتظرها بفارغ الصبر وكأنى أسمعها لأول مرة رغم أنى أحفظها عن ظهر قلب «يا ولاد يا ولاد.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة» وأتلهف للاستماع إلى الحدوتة الجديدة التى ستحكيها أبلة فضيلة بعد أن تبدأ بجملتها الجميلة: «حبايبى الحلوين.. كان يا ما كان يا سعد يا إكرام ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام».(لا أزال أردد تلك الجملة وأنا أحكى حدوتة لأطفالى حتى يومنا هذا)، هكذا كانت تطل علينا بصوتها الساحر عبر إذاعة البرنامج العام يوميًا فى الصباح الباكر لترتبط دائمًا فى وجدان الأطفال والكبار بحواديتها التى لا تنتهى والتى تربَّى عليها أجيال وأجيال وقد زرعت قيمًا وأخلاقيات وسلوكيات عظيمة بداخل كل طفل وطفلة دون أى أوامر أو وعظ مباشر. وكِدَهُوّن.. أعترف بأن أبلة فضيلة كانت دائمًا هى البديل الشرعى لجدّتى- الله يرحمها- أو هكذا تخيلتها وظللت فترة طويلة أعتقد أنها بالفعل جدّتى التى توفيت قبل ولادتى ولم أرها أبدًا فتخيلت أنها تأتى بصوتها فقط لأنها متوفاة ولا تستطيع أن تظهر بصورتها مثل باقى الأحياء ولا أدرى حتى يومنا هذا من أين أتيت بهذا التصوير الغريب ولكنى أحببت هذا الخيال الطفولى ومع الوقت صدقته، وهكذا أصبح بينى وبين أبلة فضيلة صلة قرابة وود وصداقة وأنتظر حضورها اليومى عبر أثير الإذاعة وكأنها زيارة شخصية تخصّنى بها أنا فقط من دون باقى الأطفال، ورغم أنى لم أكن قد رأيتها أبدًا من قبل واكتفيت بأنها صوت المرحومة جدّتى تزورنى من خلال جهاز الراديو لتضىء طفولتى بصوتها الحنون وتنمّى خيالى بحكايتها الجميلة المسلية عن عالم الطيبين وصراعاته كلها الطيبة حتى الأشرار فيه أيضًا طيبون ودائمًا كانت ما تأخذنى معها على جناحيها لنُحَلق فى سماء الخيال والأسطورة ونطير سويًا وننظر على الأرض من فوق السحاب لنشاهد حيوانات مختلفة وألوانًا وأشكالاً متنوعة؛ خصوصًا تلك اللقطات المبهجة لحيوانات وطيور تتحدث وتتصارع وتحب وتفرح وأطفال يُخطئون ولديهم الجرأة على الاعتراف بخطئهم وعدم تكراره بعد ذلك أبدًا وحواديت أخرى عن شخصيات أسطورية تبحث عن الحقيقة من خلال سؤال تطرحة عليهم أبلة فضيلة لترد كل شخصية على السؤال بإجابات مختلفة تعكس ملامحها ودرجة ثقافتها لتأتى الإجابة النموذجية دائمًا على لسان أبلة فضيلة لتدعم الحق وتتحيز للضمير ودائمًا ما ينتصر الخير على الشر لنحتفل نحن الأطفال بأغنية النهاية والتى تأتى تأكيدًا للمعنى الذى تطرحه الحدوتة، وأتذكر فى أحد الأيام عندما بدأت فى سرد حدوتها اليومية فإذا بها تذكر اسمى (حسن) كبطل الحدوتة وأحببت طريقتها فى تنطق اسمى وهى تحكى عن الطفل (حسن) الذى يرفض أن يشرب اللبن كان حسن يكره اللبن وعندما يراه يقول «ماما فاكرانى لسّة صغير رغم أنى كل يوم بأكبر عن اليوم اللى قبله، وكلها شهرين ويبقى عمرى 8 سنين»، وهو الأمر الذى يغضب والدته لتركه للبن، فكانت تقول له «اسمع الكلام ربنا يهديك هيقوى سنانك ورجليك وينور عقلك وعنيك»، إلا أنه كان يغضب كلما سمع ذلك ويزعج والدته، وهنا فكر أن يتخلص من اللبن برميه ولكنه قال «أستغفر الله أرمى نعمة ربنا بإيديا!»، وفكر أن يعطى الحليب لأخته الصغرى لأنها تحبه جدًا، وبعدها ذهب للعب معها فى حجرتهما ووقع على قدمه وظل يصرخ، فذهبت به والدته إلى الطبيب الذى كتب له مع العلاج كل يوم كوبًا من اللبن، وبعد أن عرف غلطته أصبح عاشقًا للبن وبعد شهرين أتم عامه الثامن وأول شىء أصبح يسأل عليه هو كوب اللبن. وتوتة توتة خلصت الحدوتة حلوة ولّا ملتوتة.. وصرخت أنادى على أمّى وأنا ألهث كيف عرفت أبلة فضيلة أنى لا أحب شرب اللبن؟ وكيف عرفت اسمى؟ وضحكت أمى وهى تقول لى يومها أبلة فضيلة بتعرف كل حاجة عن الأطفال الصغيرين ولو ما شربتش اللبن هاتزعل منك وهاتبطل تحكى لك حدوتة كل يوم.. ولأنى دائمًا أصدق أمى فصدقتها واضطررت أتجرّع كوب اللبن يوميًا حتى تأتى أبلة فضيلة فى موعدها وتستمر فى حكى حدوتة جديدة من حواديتها التى أعشقها وأتلهف على معرفة تفاصيلها وشخصياتها وحيواناتها الناطقة. وكِدَهُوّن.. عندما عملت بالتليفزيون كان لدىّ شغف كبير أن أصل إلى مكتب أبلة فضيلة وأن أشاهدها عن قرب وأتحدث معها كأنها بالفعل جدّتى الغائبة منذ سنوات ولكنى مع الأسف لا أستطيع أن أتواصل معها بسهولة ربما لاختلاف مواعيدنا، وفجأة أثناء دخولى من باب 4 سمعت صوتها الذى أعشقه منذ طفولتى ينطلق بجوارى تتحدث مع رجل الأمن لأتلفت حولى باحثًا عن صاحبة الصوت الحنون الذى طالما استمعت له دون أن أرى صاحبته أبدًا لأجدها أمامى مباشرة وكأنها إحدى شخصيات الحواديت الأسطورية تسير فى هدوء وثبات، وتقدمت منها فى خجل وتردد ولكن ابتسامتها كانت خير مشجع للاقتراب، وحكيت لها أنى لا أزال أشرب اللبن يوميًا منذ أن استمعت إلى حدوتها عن الطفل (حسن) وكيف أوهمتنى أمى أن أبلة فضيلة تقصدنى أنا بالذات، فضحكت أبلة فضيلة فى لطف وقالت لى مداعبة «شفت بقى لمّا سمعت كلامى وشربت اللبن كبرت ازاى وبقيت مخرج أد الدنيا فى التليفزيون يعنى هاتخرج لى برنامجى بقى»، وضحكت ضحكة خفيفة أقرب لابتسامة رقيقة وأنا أقول لها «ده حلم حياتى»، فقالت لى وكأنها تعتذر لى عن عدم قدرتها على تحقيق حلمى بأنها لا تحب التليفزيون وتستريح كثيرًا خلف ميكرفون الإذاعة حتى يتخيلها الأطفال بالصورة التى يخبونها. ونظرت لى فجأة وقالت «أنت كنت متخيل شكلى ازاى؟؟»، فقلت لها على الفور: «تخيلتك جدّتى التى لم أرها»، فابتسمت وقالت: «ودلوقتى بعد ما شفتنى لسّه بتتخيلنى جدتك؟»، فخجلت من الإجابة وقلت لها: «حاسس إنك شخصية خرجت من كتاب الحواديت فى مهمة سريعة وستعود لها مرة أخرى عندما تنتهى من مهمتها»، فقالت مبتسمة: «أنا فعلاً حياتى كلها كانت حواديت فى حواديت»، ثم نظرت لى فى ود ومَحبة وقالت «لسّه فاكر إيه من الحواديت بتاعتى غير (حسن) إللى مش بيحب يشرب اللبن؟»، فأدركت بأنها تتعامل مع الجميع على أنهم أطفال ففرحت واستحضرت الطفل الذى بداخلى ورُحت أحكى لها عن حدوتة (البطة إللى عايزها تنام وأولادها) التى سمعتها منها فى طفولتى فقالت لى بحزم: «أتعود قبل ما تحكى الحدوتة بتاعتى تقول: كان يا ما كان ياسعد يا إكرام ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام»، فوعدتها بأنى سأحكى الحدوتة لأطفالى كما كانت تحكيها لى وأنا طفل.. وخلص الكلام ولم أصادفها بعد ذلك أبدًا وكأنها كانت طيفًا جميلاً من الماضى. وكِدَهُوّن.. القصص والحكايات التى قدّمتها أبلة فضيلة فى برنامجها كانت تهدف إلى تسلية الطفل وإسعاده من ناحية وتشكيل وجدانه وزرع الأخلاق والمبادئ بداخله ونبذ السلوكيات السيئة مثل الكذب والخداع وعدم الالتزام بنصائح الآباء. وكِدَهُوّن.. ذكريات الطفولة لا تموت أبدًا ولكنها تمنحنا السعادة والمتعة التى تدفعنا دائمًا للأمام بمنتهى القوة والعزيمة.