الثلاثاء 29 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. جمال سامية

كدهوّن!.. جمال سامية

لم يتوقع أى إنسان عاقل أن زينب خليل إبراهيم تلك الفتاة اليتيمة الفقيرة القادمة من بنى سويف للقاهرة فى عشرينات القرن الماضى تبحث عن لقمة عيش هربًا من جحيم زوجة أبيها وهى لا تمتلك الخبرة أو قدرًا مناسبًا من التعليم الذى يؤهلها للنجاح فى هذا المجتمع القاسى الذى لا يحترم الفقراء ولا يرحم الضعفاء ستصبح هى نفسها النجمة الساحرة سامية جمال ذات الطلة الهوليوودية والحضور الراقى والهدوء الأرستقراطى والتعليم رفيع المستوى.



 

مع تمتعها بالرشاقة وخفة خطوتها فى انسجام كبير مع نغمات الموسيقى المصاحبة لرقصاتها وكأنهم نسيج فنى واحد مكمل لبعضه، وكدهون سامية جمال دائما ما تشعرك بأنها أميرة شرقية قادمة من كتاب الأساطير ترقص لك أنت لوحدك فقط من دون كل الرجال والنساء المتابعين بانبهار لخطواتها السريعة فى رشاقة راقصة باليه محترفة، وهذا هو سرهًا، فدائما توهمك بأنها ترقص لك أنت لوحدك فقط وتؤكد ذلك الإحساس بابتسامة رائعة دائمًا ما توعد ولا تنفذ وكأنها حلم جميل يأخذك لحظات من الواقع المؤلم لعالم ساحر ملىء بالمتعة والإثارة البرئية والجمال، فقد كانت بالفعل ترقص كباليرينا من فرقة البولشوى الروسية تحترف الرقص الشرقى وتنطلق ذهابًا وإيابًا ويمينًا ويسارًا وتتحرك فى كل اتجاه على المسرح فاتحة ذراعيها للحياة وكأنها فى عناق كبير معها تتمايل بجسدها الدقيق على نغمات الموسيقى الشرقية كطائر حائر يحلق بين الأغصان يبحث عن وليفه المجهول دون جدوى، وكدهون  نجحت سامية جمال فى خلق صورة حالمة للراقصة الشرقية التى تتمتع بالأنوثة غير المبتذلة فلم تتعمد أبدًا الإثارة ولا ارتداء الملابس الفاضحة ولم تتمايل فى خطواتها أثناء السير كما كانت تفعل ممثلات الإغراء فى زمانها؛ ولكنها دائمًا ما احتفظت بملابسها الراقية التى ترتديها هوانم عصرها فتشعرك بأنها ما زالت تحتفظ بخجل العذارى حتى وهى ترقص وكأنها تقدم رقصتها الأولى بمنتهى البراءة والسحر والإثارة؛ حتى إنها قررت على غير العادة أن ترقص حافية القدمين كى لا يعوق خطواتها البريئة حذاء ذو كعب مرتفع فيذكر جمهورها بأنوثتها الخجولة، مما يصعب من مهمتها على المسرح فأطلقوا عليها لقب الراقصة الحافية وكدهون.

ورغم ما وصلت له من نجومية وشهرة وثراء؛ فإن ملامحها ظل دائمًا يكسوها شيء من الحزن والألم وكأنه رفض أن يرحل عنها تمامًا قبل أن يترك بصمته الواضحة على ملامحها الجميلة وكأنه شاهد على أيام الفقر والضياع والحرمان، فدائمًا نلمح نظرة الوجع تكحل عيونها الصامتة حتى وهى ترقص تظل ملامحها يشوبها الحزن فتحتار معها هل هى ترقص فرحًا أم وجعًا.وكدهون.

صعد نجمها فى سماء الفن ببطء شديد من فتاة ضمن فتيات كازينو بديعة مصابنى لكومبارس صامت ترقص مع مجموعة الراقصات على أنغام أغنية عبدالوهاب «انسى الدنيا وريح بالك» فى فيلم رصاصة فى القلب ومجموعة أخرى من الأفلام التى ظهرت فيها بشكل عابر وسريع وبصبر وعزيمة الفتاة اليتيمة التى شكلت شخصيتها قسوة الأيام والليالى تحملت صعوبة البدايات بابتسامة عريضة وتحدٍ للهزيمة والفشل لتتوهج فى سماء الفن خصوصا بعد ظهورها اللافت للأنظار فى فيلم «انتصار الشباب» عام 1941 ليكون اللقاء الأول مع فتى أحلامها وحلم عمرها فريد الأطرش الذى عشقته من صوته فقط من خلال الإذاعة والاسطوانات ومن قبل أن تراه أو تعرف شكلة كما ذكرت فى حديث إذاعى لها، وقالت لقد حدثت المعجزة واستطاعت أن تلفت نظر حبيب العمر  بعد محاولات مضنية منها حتى صارت شريكة نجاحاته السينمائية التى لا تنسى وخصوصًا فيلم عفريتة هانم من إخراج بركات الذى خلد هذا الثنائى الفنى البديع الذى ارتبط عند المصريين بعيد الربيع، فتنطلق أغنية الربيع بصوت فريد الأطرش ورقصات سامية جمال التى جسدت بخطواتها الفصول الأربعة الشتاء والخريف والصيف والربيع بمهارة تحسدها عليها أبرع الراقصات الشرقيات فى وقتها وحتى يومنا هذا فقد اهتمت بجانب رشاقة خطواتها على أناقة بدل الرقص وتنوع ألوانها وإكسسواراتها ولم تستسلم للتصميم التقليدى لبدلة الرقص الذى اعتادت عليه باقى الراقصات فقدمت أزياء أقرب لفساتين السهرة مع تسريحات شعر متنوعة فكانت صورة مختلفة ومبهجة على الشاشة الفضية ودعم نجاحها الاستعانة بفرقة استعراضية ضخمة من الفتيات الجميلات يرقصن خلفها لتتوهج وتشع جمالًا على جمالها بمصاحبة نغمات رائعة لفريد الأطرش فيتضاعف نجاحها خصوصًا وهو تقدم شخصيتين فى الفيلم بخفة ظل واضحة؛ إحداهما لعفريتة شقية والأخرى لراقصة عصبية اشتهرت بجملة (هؤا يا نؤا) ليضحك الجمهور ويعشق هذا الثنائى الفنى فيقدم معًا ستة أفلام استعراضية عاشت فى ذاكرة السينما المصرية إلا أنها سريعا ما تنفصل عنه فنيا بعد فشل علاقتهما العاطفية وعدم رغبته فى تتويجها بالزواج لترحل عن أفلامه وأنغامه وعن الوطن ذات نفسه وتذهب فى رحلة لمدة عامين إلى أمريكا بعد أن تزوجت متعهد حفلات أمريكى لتعود لمصر مرة أخرى لتقدم مجموعة من أجمل وأشهر أفلامها، ولعل أهمها على الإطلاق فيلم الرجل الثانى إخراج عز الدين ذو الفقار  حيث قدمت واحدًا من أشهر أدوارها على الإطلاق كممثلة متمكنة من  أدائها التمثيلى بالإضافة لمجموعة رقصات استعراضية مميزة والأهم خرجت من هذا الفيلم بعقد زواج من أشهر فنانى مصر على الإطلاق ورمز الرجولة والوسامة رشدى أباظة لتتفرغ له تماما وتبتعد عن الفن والأضواء والشهرة، وتكتفى بلقب مدام رشدى أباظة وكأن اللقب هذا رد الاعتبار لها وكان القدر قرر أخيرًا  يطبطب عليها بعد قسوة حياتها من طفولتها حتى عندما سارت نجمة ملء الأبصار والأسماع رفض فريد الأطرش الارتباط بها وهو حبيب عمرها فكان زواجها من رشدى أباظة خير ترضية لها من القدر لتستمر معه 18 سنة تحملت خلالها نزوات زوجها وتقلباته المزاجية، حتى أنها تفاجأت بخبر زواجه من بالفنانة صباح فتستقبل الخبر فى صمت مطلق حتى عاد لها رشدى أباظة مرة أخرى لتذهب لاستقباله فى المطار وكأن شيئًا لم يكن لينتهى الزواج بعد ذلك بسنوات عديدة بالطلاق الهادئ ليسدل الستار على أشهر زواج فنى فى وقتها.. وكدهون.

ترفض أن ترحل عن الحياة دون أن تقدم رقصتها الأخيرة كعصفور يقاوم الانكسار ففى الستين من عمرها ترتدى بدلة رقص أنيقة جدا وتعود فتتمايل يمينًا ويسارًا على خشبة المسرح بخفة الفراشة وتأخد جمهورها معها على جناحها الطائر لتحلق بهم فى عالم غير هذا العالم لتذكرهم بتاريخها الفنى الطويل ورقصاتها الراقية ولترحل فى هدوء يليق بأميرة شرقية قادمة من عالم الأساطير فيفنى الجسد وتبقى أسطورتها شاهدة على عصر من الفن والإبداع والثقافة والحب وقبول الآخر مهما اختلفنا معه.. وكدهون احتفظت سامية جمال بصورتها الراقية غير المبتذلة على عكس الصورة الذهنية المترسخة فى وجدان المصريين لشخصية الراقصة الشرقية الجريئة لدرجة البجاحة المتسلطة فى جبروت ولهذا عاشت الرائعة سامية جمال نموذجًا غير متكرر لشخصية الراقصة الشرقية حفرت مكانتها فى وجدان المصريين.