الأحد 20 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. وقائع ظهور «فقر الفكر»  قبل 36 سنة  ومعركة «راسبوتين.. وأمين»

الطريق الثالث.. وقائع ظهور «فقر الفكر» قبل 36 سنة ومعركة «راسبوتين.. وأمين»

محبتى كبيرة وتقديرى عظيم لفضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، وهى محبة منشورة ورأى معروف، وحكيت فى أكثر من مناسبة عن تباين علاقتى مع إمام الدعاة عبر سنوات عمرى من الكراهية إلى الحب، ومن الرفض التام لمتابعة أحاديثه الدينية التليفزيونية أو آرائه الفقهية المنشورة فى الكتب والصحف فى الماضى.



 إلى الاستمتاع اليوم بمشاهدة مقاطع فيديو لأشهر آرائه واجتهاداته الدينية القديمة، والتى تحقق ملايين المشاهدات عبر تطبيقات (السوشيال ميديا) الحديثة، وربما يرجع هذا التحول إلى أننى أصبحت الآن أسمعه بقلبى لا بعقلى.  ورغم هذه المحبة، لا أجد حرجًا فى أن أعيد التذكير بواقعة شهيرة وأزمة تفجرت، جرت وقائعها فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، ربما تساعدنا قراءة التاريخ فى فهم المستقبل، وذلك إيمانًا بـ«حق المعرفة»، وترسيخًا لمبدأ «احترام الاختلاف»، الذى هو لصيق الصلة بعقيدة سامية هى «حرية التعبير»، وثلاثتهم الضامن الوحيد لتطور الفكر وتجدده.

وتبدأ القصة بكتاب نشره الدكتور يوسف إدريس بعنوان «فكر الفقر وفقر الفكر»، ورغم أهمية الكتاب وقيمته فى مناقشة مسألة فى غاية الأهمية، لا تزال مصر تعانى منها حتى اليوم، وتدور فى فلكها يائسة بلا أمل فى حل ناجز، إلا أن الكتاب تاه فى صخب المعركة التى اشتعلت بسبب وصف إدريس للشيخ الشعراوى (رحمه الله)، بـ «راسبوتين المسلم»، جاء ذلك فى سياق مقال: «العروبة ضد العرب والإسلام ضد المسلمين؟»، حيث قال إدريس: «وكان طبيعيًّا جِدًّا أن ينشأ لهذه الدعوة المغرضة «نابغة» اسمه محمد متولى الشعراوى، يتمتَّع بكل خصال راسبوتين المسلم من قدرة على إقناع الجماهير البسيطة وقدرة على التمثيل والحديث بالذراعين وتعبيرات الوجه، والقُدرة على جيب كبير مفتوح دائمًا للأموال، باختصار، قدرات أى ممثِّل نصف موهوب». ويوضح الأديب الكبير فى موضع آخر من المقال قائلًا: «كان هدفه منذ البداية واضحًا، أن يُبشِّر بإسلام غريب، يجعل مشكلة المسلم تنحصر فى ذاته وطريقة عبادته، ولا يأبه أبدًا لأرضِه أو عدوِّه وعدو المسلمين».

وبحسب ما أكده الزميل سعيد الشحات فى «اليوم السابع»، فقد نفى إدريس هذا الوصف فى مقال كتبه بعنوان «توضيح عاجل واعتذار» نشر فى جريدة الأهرام فى 3 فبراير 1986، وتعلل فيه بـ«الخطأ المطبعى» الذى سقط إصلاحه سهوًا، مؤكدًا تقديره للشيخ، بل أضاف فى وصف فضيلته، قائلًا: «إنه أهم ظاهرة دينية إسلامية ظهرت منذ أيام الأئمة الأربعة الكبار، أبو حنيفة والشافعى ومالك وبن حنبل رضى الله عنهم جميعًا». 

والعلاقة بين الإمام الكبير والأديب الشهير، ممتدة فى الخلاف، فلقد سبق هذه الواقعة، حادث آخر كان بطله المفكر والأديب الأستاذ توفيق الحكيم (رحمه الله)، واندلعت شرارتها الأولى بسبب حوار افتراضى مع الله، تخيله الحكيم ونشره فى سلسلة مقالات بعنوان (حوار مع الله) فى جريدة الأهرام مطلع الثمانينيات من القرن الماضى، واندفع الشعراوى يرفض طرح الحكيم وحواره، حاسمًا الأمر بأنه «لا يجوز هذا الحوار مع الذات الإلهية»، ودخل الدكتوران يوسف إدريس وزكى نجيب محمود على خط المعركة بعد أن تحمسا ليدافعا عن الحكيم، معتبرين رأى الشيخ تكفيرًا لأديب ومفكر كبير، وانشغلت الصحف بوقائع الخلاف الفكرى لأسابيع، حتى انتهى الأمر بسلام، ودون قطيعة أو اتهام. 

وقد توقفت كثيرًا أمام حماسة الشيخ الشعراوى فى هذه المرحلة (تحديدًا) التى أعقبت اغتيال السادات، حيث تعددت معاركه مع المثقفين، وصدامه فى الرأى مع أفكارهم المتحررة والجريئة، والتى كانت أصلًا موجودة ومطروحة قبل ذلك التاريخ بسنوات، وما يثير الشك هو تزامن ذلك مع تصاعد أنشطة تيارات الدين السياسى بمختلف جماعاته، يتقدمهم بالطبع «الإخوان المسلمين»، وانتعاش الحياة السياسية عام 1984 بإجراء أول انتخابات برلمانية تجرى فى حكم الرئيس مبارك (وهى الأكثر ديمقراطية فى عهده) والتى أوصلت أعضاء من الجماعة المحظورة إلى البرلمان المصرى، بعد تحالفهم مع حزب الوفد.

وقد استمر إدريس فى ملاحقة الشعراوى بالنقد دون أن يصرح باسمه، وذلك فى موضع آخر من الكتاب، قائلًا: «ظللت لثلاث حلقات مُتتابعة فى التليفزيون أستمع إلى داعيةٍ إسلاميٍّ فاضل يناقش قضية الاسم والفعل والحرف فى اللغة العربية فى مجال شرحه لآيات من آيات القرآن الكريم، والناس قد شملهم الوَجدُ من روعة آيات الإعراب والشرح لمعنى الحرف والاسم والفعل ومواقعها من الجملة، ويَحدُث هذا فى الوقت الذى كان لبنان فيه تجتاحُه جيوش النازية الجديدة وتقصف وتدكُّ بيوت المسلمين وتَنتزِع أرواح أطفال المسلمين ونسائهم وشيوخهم ورجالهم».

وكتاب إدريس (فقر الفكر) هو مقالات نشرت فى عدد من الصحف، وتصفه مؤسسة هنداوى التى أعادت نشره إلكترونيًا فى نسخة (بهية) عام 2019 بـ«خَواطِرَ ومُذكِّراتٍ دَوَّنَ فِيها انْطِباعاتِه وتَصوُّراتِه حَولَ مُشكِلةِ الفَقْر؛ أَخْرَجَها لِتَكُونَ مَشْروعًا يُحلِّلُ فِيهِ ظاهِرةَ فَقْرِ الأَفْكارِ المُؤَدِّيةَ إِلى فَقْرِ الإِنْتاج. ولَمْ يُرِدْ بالفَقْرِ تِلْكَ الحَالةَ المادِّيَّةَ الَّتى يَكُونُ فِيها الإِنْسانُ تَحتَ وَطْأةِ العَوَزِ والحاجَة، وَإنَّما أَرادَ بِهِ المَعنَى الأَوسَعَ الأشمل لِلَفْظةِ «فَقْر»، وربَطَ بَينَ بَوَارِ الأَفْكارِ والفَقرِ فِى الإِنْتاجِ الاقتِصادِى، فجَعَلَهُما وكَأنَّهما يَدُورانِ فِى دائِرةٍ مُفرَغةٍ لا يُعلَمُ لَها بِدَايةٌ مِن نِهايَة». 

ربما نختلف فى كلمة أو وصف أو نقد مع ما كتبه أديبنا الكبير يوسف إدريس، لكننا سنجد مساحات من الاتفاق مع أفكاره الطازجة (رغم قدم إنتاجها)، لأنها أصيلة المنشأ، وتشكلت نتاج عشق صادق لتراب هذا الوطن، أفكار تستحق التفكير والتقدير، وأختم بهذه الكلمات من كتابه «فَقْر الفكر»، حيث يقول: «نحن مغرمون دائمًا بكلمة أزمة، نطلقها على كل شىء؛ أزمة لحمة، أزمة مساكن، أزمة ثقة، أزمة قصة، أزمة مواصلات، والذى أريده هنا هو أن نمتنع تمامًا عن ذكر كلمة أزمة، فالكلمة الحقيقية التى لا بُدَّ أن نستعملها هى كلمة فقر، وإذا أحلَلناها محل كلمة الأزمة، فإننى أعتقد أن الصورة تتَّضح بطريقة تساوى نصف الحل؛ فلو قلنا فقر لحمة، وفقر مساكن، وفقر ثقة، وفقر مسرح، وفقر سينما، وفقر صحافة، وفقر كتابة، لكانت التسمية والتشخيص أدق. الفقر هنا بالضبط هو عكس الغِنى، والغِنى ليس الغِنى المادى، إنما هو أوَّلًا وأساسًا غِنى النفس، النفس الغنية غنية حتى لو كانت تَقتات أو حتى تبيت على الطوى، والنفس الفقيرة فقيرة حتى لو كانت تملك الملايين».