الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. غريب فى بلاد غريبة

كدهوّن!.. غريب فى بلاد غريبة

سعدنى دائمًا التعرف على تجارُب الشباب المصرى الناجحة بالخارج لأنى أعتبرهم سفراء لمصر فوق العادة فى كل أنحاء العالم.. وكِدَهُوَّن سعدتُ جدًا بلقاء الشاب المصرى «أمين الطويل» المقيم منذ سنوات طويلة بألمانيا بعد أن حصل على جنسيتها بجانب احتفاظه بجنسيته المصرية ونجاحه فى الالتحاق بالعمل بإحدى المؤسّسات المهمة هناك إلا أنه لا يزال محتفظًا بملامحه الطفولية وضحكته البريئة وبخجله الشرقى الأصيل وكأنه مراهق مصرى لم يفارق حُضن وطنه وأهله وأصحابه؛ بل إنك تشعر أنه لم يترك غرفته فى منزل والده حتى اليوم وكِدَهُوَّن.



 

إن الشاب المصرى «أمين الطويل» قد فعلها وترك وطنه وأسرته الصغيرة وحمل حقيبته وأوراقه وسافر إلى تلك البلاد البعيدة ليواجه المجهول بمفردة بعيدًا عن حماية الأب والأم وليبدأ مرحلة جديدة من عمره بعد حصوله على الثانوية العامة من إحدى مدارس القاهرة وهو ابن الثمانية عشر عامًا ذهب ليقيم إقامة كاملة فى ألمانيا ليدرس بإحدى جامعاتها ويشتغل فى نفس الوقت ليوفر مصروفات تعليمه هناك دون أن يضطر لطلب أى مساعدات مالية من أسرته بالقاهرة بقدر الإمكان ويعيش تجربة الغربة بكل تفاصيلها وقسوتها ومفاجآتها وكل ما تقدمه له من خبرات ومهارات ربما لم يكن ليكتسبها لو استمر يقيم فى منزل والده بالقاهرة وكِدَهُوَّن.. الغريب والجميل أن «أمين» تعامل مع الغربة ببساطة شديدة ودون رهبة أو خوف من الفشل وقال لى ضاحكا عندما لمح نظرات الدهشة فى عينى من إقدامه على تلك الخطوة الجريئة (من وجهة نظرى) وهو ما زال فى سن صغيرة وبلا أى خبرة حياتية على أرض الواقع فكيف به أن يتحمل مسئولية نفسه ويعيش غريبًا فى بلاد غريبة عنه بكل عاداتها وتقاليدها وكِدَهُوَّن.. فقال لى ضاحكا: أعتقد أنى لو لم أقم بتلك الخطوة فى ذلك الوقت ربما لم أكن أستطيع أن أفعلها بعد ذلك أبدًا لأن الإنسان يفقد قدرته على المغامرة بمرور الوقت ومن كثرة المسئوليات وكِدَهُوَّن.. ويسترسل قائلا: لم أشعر أبدًا بأى مشكلة هناك، فمنذ اليوم الأول لى فى ألمانيا حرصت على معرفة كل القوانين والتعليمات التى تنظم سَير الحياة هناك حتى ألتزم بها ولا أقع تحت طائلة القانون بسبب جهلى بها، كما حرصت أيضًا على معرفة مكان أقرب سوبر ماركت من منزلى ومواعيد إغلاقه لأن كل المحلات هناك تغلق أبوابها تمامًا فى الساعة الثامنة مساء ولا يوجد أى محلات تظل مفتوحة بعد ذلك التوقيت أبدًا، وهكذا اندمجت فى الحياة اليومية تدريجيًا بلا أى مشاكل أو صعوبات وكِدَهُوَّن.. وبخاصة أنى وجدت كل الشباب الألمان يعيشون نفس تجربتى داخل بلادهم، فهم يتركون منزل أهلهم بمجرد بلوغهم الثامنة عشرة من عمرهم ويبحثون عن بيت خاص بهم بعيدًا عن منزل أهلهم ليبدأوا مرحلة جديدة فى حياتهم يعتمدون فيها على أنفسهم فى كل شىء فيدرسون ويعملون فى نفس الوقت، وهذا ما وجدت عليه الوضع فى ألمانيا لا أحد يقيم مع أسرته بعد سن الثامنة عشرة من عمرهم وإن حدث فيعتبره المجتمع تصرفًا غير طبيعى، وكِدَهُوَّن.. والتحق بإحدى الجامعات الألمانية لدراسة (اللوچيستك المطارات Logistics)‏ هو فن وعلم إدارة تدفق البضائع والطاقة والمعلومات والموارد الأخرى كالمنتجات الخدمات وحتى البشرية من منطقة الإنتاج إلى منطقة الاستهلاك. ومن الصعب أو حتى من المستحيل إنجاز أى تجارة عالمية أو عملية (استيراد/تصدير) نقل للمواد الأولية أو المنتجات وتصنيعها دون دعم لوچستى احترافى وكِدَهُوَّن.. وفى نفس الوقت بدأ فى العمل بإحدى المحلات التجارية؛ حيث يسمح نظام التعليم الجامعى هناك للطالب أن يدرس فترة زمنية هو الذى يحددها بنفسه وفقًا لظروفه الشخصية فلتكن مثلاً لمدة شهر أو شهرين ثم يتوقف لشهرين أو أكثر للعمل والعودة للمَدرسة بعد ذلك حتى يتمكن الطالب من توفير دخل مناسب يسمح له بمواصلة التعليم دون أن يتعرض لأى معوقات مالية.. وهكذا تعلم «أمين» كيف ينظم ميزانيته الصغيرة وفقًا لدخله حتى إنه قال لى إنه يذهب إلى مدينة بعيدة نسبيًا عن محل سكنه ليضع البنزين، حيث إن سعر لتر البنزين هناك أقل من سعره حيث يقيم فيستطيع أن يستفيد من فرق السعر.. وكِدَهُوَّن تغيرت شخصية «أمين» كثيرًا منذ اللحظة الأولى له فى الغربة كما نطلق عليها هنا فى مصر فاعتاد الفتى ابن الثامنة عشرة من عمره على أسلوب حياتهم الصارم جدًا وتعلم قدسية العمل واحترام القوانين؛ وبخاصة قوانين المرور حتى لا يضطر لدفع غرامات باهظة إذا خالف إشارات المرور هناك، فالقانون مقدس ولا مجال للتهرب أو الاستثناءات.. وكِدَهُوَّن يضحك عاليًَا لأنه عندما اصطحب أصدقاءه الألمان لقضاء إجازتهم السنوية فى القاهرة والجونة فى شهر أغسطس من هذا العام للاستمتاع بشواطئنا الرائعة وممارسة الرياضات المائية والغطس وملامسة الشُّعَب المرجانية فى البحر الأحمر إلا أنهم أصيبوا بفزع من الزحام الكبير فى شوارع القاهرة والضوضاء والأصوات العالية وكلاكس السيارات التى تنطلق بلا هوادة أو سبب واضح لهم ولنا نحن أيضًا وإخافتهم حركة موتوسيكلات بشكل عشوائى أو يسير مخالفًا عكس الاتجاه، ولكن يظل انبهارهم الكبير الذى طغى على خوفهم من الضوضاء فكان من عراقة القاهرة وآثارها الفرعونية والقبطية والإسلامية وزاد من انبهارهم حجم الأهرامات الثلاثة فلم يتخيلوا أنها بهذا الحجم العظيم؛ حيث إنها تظهر فى الصور الفوتوغرافية أصغر حجمًا مما هى عليه فى الواقع وحرصوا على أخذ مَركب بالنيل للاستمتاع بليل القاهرة الساحر وأنهوا زيارتهم بزيارة خان الخليلى وشراء ورق البردى وبعض المشغولات اليدوية والنحاسية ولم يخفوا اندهاشهم من وجود مولات عملاقة فى مصر مثل مول العرب أو مول مصر لأنها غير موجودة بألمانيا بهذه الضخامة والمساحات العملاقة لندرة الأرض هناك وكِدَهُوَّن.. ورث «أمين» عن والده عشقه للكلاب بشكل خاص إلا أنه لم يتمكن من الاحتفاظ بكلب معه فى منزله بألمانيا نظرًا لصغر حجم البيوت هناك وصعوبة رعايتها مع انشغاله بمهام عمله إلا أنه عندما أخبره والده بإصابة كلب فى حادث وتسبب فى عدم قدرته على المشى مرة أخرى وطلب منه شراء عَجلة مخصصة للكلاب المعاقة من ألمانيا لمساعدة هذا الكلب على الحركة بشكل أقرب للطبيعى تحمّس «أمين» جدًا للبحث عنها وشرائها لإسعاد هذا الكلب الصغير، وكِدَهُوَّن.. يعرف «أمين» أن جدّته هى الفنانة السينمائية الكبيرة مريم فخر الدين ولكنه لا يتذكر أفلامها ولا تاريخها الفنى الطويل؛ خصوصًا أنه عاصرها وقد تقدّم بها العمر وقل عملها تدريجيًا مع الوقت حتى كادت أن تكون قد اعتزلت الفن فلم يَرَ أيام مجدها الفنى، فهى بالنسبة له فقط جدته، الطيبة الضاحكة دائمًا التى كانت تطبخ له رز وملوخية وأرانب وتحدثت معه دائمًا باللغة الألمانية التى تنطقها بطلاقة؛ حيث كانت تجيد الحديث بسبع لغات غير العربية فكانت تأخذه هو وشقيقته «ناديا» عند زيارتها كل أسبوع لترسم علامة على حائط غرفتها بقلم رصاص حتى تعرف مقدار الزيادة فى طولهما فى ذلك الوقت لتعرف معدل نموهما.. وكم كان يشعر «أمين» بسعادة بالغة عندما يزيد طوله عدة سنتيمترات وترتفع العلامة على حائط غرفة جدته ثم يذهب معها لإطعام قط السلم التى تنتظرها على باب شقتها فيقدم لها الخبز واللبن على ما يتذكر يتقدمان إلى الشرفة الكبيرة التى أغلقتها لتترك العصافير والطيور تحلق بحُرية على أغصان الزرع فى بلكونتها المطلة على حديقة الحيوان من دون أقفاص تحد من حريتها.. ويتذكر «أمين» أنه دائمًا ما كان يسقط فى طبق كبير به ماء للعصافير وكل مرة تنقذه جدته الفنانة مريم فخر الدين من الغرق فى شبر مية ولكنه للأسف لا يعرف الأميرة «إنجى» فى فيلم (رد قلبى) ولا الأميرة «چيهان» فى فيلم (الأيادى الناعمة) ولا يتذكر أغنية عبدالحليم حافظ التى غناها لجدّته الجميلة «بتلومونى ليه، لو شوفتم عينيه، حلوين أد إيه» وكِدَهُوَّن.. اعتاد الطير المهاجر على العودة إلى حضن الوطن بانتظام فى كل إجازاته السنوية ليسعد بصحبة أهله وأصدقائه وزيارة الأماكن التى طالما ارتبط بها وجدانيًا وشكلت ذكرياته وأحلى أيام طفولته ليعود مرة أخرى إلى حياته بألمانيا وقد تشبع بحُض الوطن.