
حسن عيسى
كدهوّن!.. رجل الأقدار
اعتاد «نور الشريف» أن يواجه قَدَره بابتسامة طفولية ووجْه بَشوش منذ أن وُلد يتيمَ الأب وزواج أمّه وبقائه مع عمّه حتى تخرُّجه فى معهد الفنون المسرحية لم يستسلم لضربات القَدَر وتعامَل معها كأنها فيلم سينمائى لا بُد لأحداثه أن تنتهى ليبدأ فيلمٌ آخر ويعيش أحداثًا جديدة بمشاكل مختلفة يواجهها بهدوء وبوعى حتى يتجاوزها ويصعد درجات ودرجات فى مسيرته الإنسانية والفنية بإصرار وجهد وذكاء وسلاسة، استطاع أن يحفر لنفسه مكانًا مميزًا وسط وحوش التمثيل رُغْمَ قسوة المنافسة وشروط السوق التى لا تعرف مجاملة أو صداقة تحوَّل لأهم نجوم الشاشة المصرية فى سنوات قليلة.
رُغْمَ أنه بدأ حياته الفنية فى فترة حرجة جدًا من تاريخ مصر بَعد النكسة وأزمة السينما المصرية وقلة إنتاجها وهجرة كبار النجوم للعمل فى لبنان وتركيا إلا أنه دخل السينما بقلب عاشق للفن بكل عناصره الفنية وليس التمثيل فقط، وهذا ما مَيّزه طوال مسيرته الفنية بَعد ذلك؛ فلم يكن مجرد ممثل يؤدى دوره بكفاءة ولكنه عاشق مُتيم بكل تفاصيل تلك الصناعة من تأليف وإخراج وتمثيل وإضاءة وتصوير وموسيقى، ولهذا خَلق لنفسه حالة فنية خاصة جدًا وكِدَهُوَّن. نجح فى إثبات نفسه كنجم قادم على الطريق منذ ظهوره لأول مرّة من خلال فيلم (قصر الشوق) مع المخرج حسن الإمام فى دور المثقف المُحبَط كمال أحمد عبدالجواد وينجح الشاب الجديد وينطلق بقوة نحو الشهرة والنجومية إلا أنه لم يدخل أبدًا فى صراعات أو مشكلات مع زملائه فى الوسط الفنى ولم يفقد البوصلة الفنية أبدًا ولم يجعل أى شىء يشغله عن حلمه الفنى؛ فقد كان هدفه واضحًا من البداية وهو دعم الممثل الذى يعيش بداخله حتى يتمكن من تقديم شخصيات درامية مختلفة ومتباينة تؤكد على عُمق موهبته وقدرته على التطور والاستمرار وكِدَهُوَّن.. وعندما أحبَّ أصرَّ على الزواج من فتاة أحلامه مَهما بلغت الصعاب والمستحيلات ولم يهدأ حتى أصبحت شريكة حياته وأم أولاده ليُكوِّنَ معها ثنائيًا فنيًا ذا طبيعة خاصة جدًا رغم قلة أعمالهما الفنية سويًا؛ فإن الجمهور عشقهم فى فيلم (حبيبى دائمًا) للمخرج حسين كمال وتعامَل مع قصة الحب داخل الفيلم على أنها قصة حياتهما وتخيّل حياتهما معًا فى الواقع كفيلم رومانسى طويل توّج بإنجابهما «سارة ومى» ودخولهما الوسط الفنى أيضًا بدعم وتشجيع من والدهما الذى لم يخضع أبدًا للنفاق الاجتماعى أو الدينى الذى ساد فى تلك الفترة فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى وما صاحبها من دعوات مشبوهة للإساءة لدور الفن وعمل الفنانات بالذات والدعوة لاعتزالهن حتى بلغ الأمْرُ ذروته عندما أعلن بعض النجوم الرجال فى وسائل الإعلام عن رفضهم دخول زوجاتهم أو بناتهم الفن وكأنه وسط رجالى فقط كان نور الشريف يمتلك من الشجاعة والوعى بدور الفن فى تشكيل وجدان الجمهور وتنمية مجتمعه بأن شجّع ابنتيه على دخول الوسط الفنى وقام بإنتاج أكثر من فيلم يجمعه بزوجته الفنانة «بوسى» لتتحول أسرته الصغيرة لجزء من كل أسرة مصرية.. وكِدَهُوَّن عشق نور الشريف الممثل الذى بداخله وأخضع له كل الإمكانيات الإنسانية والمادية والمعنوية حتى يتوهج ويتطور ويستمر لآخر لحظة فى عمره على القمة ليس فقط كممثل ولكن كأحد مثقفى هذا العصر؛ فقد كان يمتلك وجهة نظر خاصة فى الفن والسياسة والحياة وكِدَهُوَّن.. إن نور الشريف النموذج المثالى لكيفية إدارة الموهبة وتطويرها لتزداد عمقًا وتوهجًا مع الوقت والخبرة وكِدَهُوَّن.. رجل عنيد صنع قدَرَه بنفسه ولم يعتمد على ضربة حظ أو الصدفة لتصنع عالمه الخاص أو تأتى له بأفلام قيمة وأدوار مميزة على طبَق من فضة، ولكنه هو من يبحث عنها دائمًا ويخلفها فسعَى بكل ما يمتلك من موهبة وثقافة وأموال ليحقق أحلامَه الفنية على أرض الواقع بعيدًا عن نمطية الأدوار التى كانت تُعرض عليه وقتها مثل (البعض يذهب للمأذون مرتين) أو (شقة فى وسط البلد) أو (الحفيد) رُغْمَ نجاحها جماهيريًا؛ فإنه كان له حُلم خاص بتقديم سينما مختلفة عن السائد فى تلك الفترة رُغم أنه قَدَّم فى بداياته الفنية عدة أفلام مميزة جدًا مع النجمة الاستثنائية سعاد حسنى منذ بدايته مثل فيلم (نادية) مع المخرج أحمد بدرخان وفيلم (بئر الحرمان) مع المخرج كمال الشيخ و(زوجتى والكلب) للمخرج سعيد مرزوق و(الكرنك) مع المخرج على بدرخان وكِدَهُوَّن.. ففتح آفاقًا جديدة للسينما المصرية بدعمه لمخرجين ومؤلفين شباب ربما يعملون لأول مرّة فى وقت كان يشهد ركودًا كبيرًا للسينما المصرية فأنتج أفلامًا من نوعية (ضربة شمس) للمخرج محمد خان و(دائرة الانتقام) للمخرج سمير سيف و(حبيبى دائمًا) للمخرج حسين كمال و(زمن حاتم زهران) للمخرج محمد النجار و(آخر الرجال المحترمين) مع سمير سيف و(ناجى العلى) للمخرج عاطف الطيب الذى أثار ضجّة كبيرة وتعرَّض لهجوم حاد كاد أن تنهى حياته المهنية لولا قوة نور الشريف النفسية التى جعلته يمتص تلك الحملات المغرضة وتهدأ العاصفة ليعود من جديد لمواصلة مسيرته الفنية من خلال السينما والمسرح والتليفزيون.. وكِدَهُوَّن شهدت فترة الثمانينيات والتسعينيات توهجًا سينمائيًا ونضجًا كبيرًا فى الأداء والاختيارات فقدّم مع يوسف شاهين (حدوتة مصرية) و(المصير) وقدَّم مع عاطف الطيب أهم أفلامه فى تلك المرحلة وهو (سواق الأتوبيس) و(ليلة ساخنة) و(قلب الليل) و(الزمار) و(ناجى العلى) ومع المخرج داوود عبدالسيد (الصعاليك) و(البحث عن سيد مزروق) ومع سمير سيف (دائرة الانتقام) و(قطة على نار) و(غريب فى بيتى) ومع المخرج على بدرخان فيلم (أهل القمة) ومع المخرج كمال الشيخ فيلم (الطاووس) و(قاهر الزمن) ومع المخرج على عبدالخالق فيلم (العار) و(جرى الوحوش) ومع المخرج أشرف فهمى (الشيطان يعظ) و(وصمة عار).. وكِدَهُوَّن تظل مرحلة إبداعه التليفزيونية من أهم محطات حياته الفنية على الإطلاق؛ حيث شهدت نجاحًا أسطوريًا غير متكرر؛ خصوصًا أنه عندما دخل عالم الدراما التليفزيونية قدّم أدوارًا مختلفة جدًا عن السائد تمامًا كتبت له الخلود مثل مسلسل (لن أعيش فى جلباب أبى) مع المخرج أحمد توفيق والذى تحوَّل مع الوقت إلى أيقونه فنية، وشكل مع الفنانة عبلة كامل ثنائيًا فنيًا فريدًا من نوعه لا يزال يتمتع بمَحبة المصريين حتى يومنا هذا وقصة حب عبدالغفور البرعى وفاطمة كشرى وكذلك حقق مسلسل (الحاج متولى) مع المخرج محمد النقلى نجاحًا جماهيريًا منقطع النظير حتى تحولت شخصية الحاج متولى إلى رمز لكل رجل يعشق النساء ويتزوج بأكثر من امرأة، ومسلسل (الرجل الآخر) مع المخرج مجدى أبوعميرة و(الدالى) إخراج يوسف شرف الدين و(عمر بن عبدالعزيز) و(هارون الرشيد) إخراج أحمد توفيق.. وكِدَهُوَّن، لم يغفل نور الشريف دوره كنجم فى تقديم وجوه شابة بجواره فقدّم مصطفى شعبان وعمر يوسف وحسن رداد ومحمد رياض وأحمد زاهر وحلا شيحا وسمية الخشاب وغادة عبدالرازق ورانيا يوسف وآيتن عامر وغيرهم من النجوم وكِدَهُوَّن.. فتربع على القمة فى السينما والتليفزيون والمسرح لسنوات طويلة حتى تدخل القدر مرّة أخرى ليوقف تلك المسيرة الفنية والإنسانية المتدفقة فيداهمه السرطان فى عز نجوميته المتوهجة ليستقبل آخر ضربات القدر بابتسامته الطفولية البشوشة ليرحل سريعًا قبل أن نرتوى تمامًا من موهبته الاستثنائية ولكنه ترك ثروة لا تنسى من الأعمال الفنية الرائعه وكِدَهُوَّن.. سلامًا لروح نور الشريف.