الأحد 20 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث .. قصة قصيرة من مجموعة «شبح يدخن الشيشة» ابن بطة وبنت حَدَّق

الطريق الثالث .. قصة قصيرة من مجموعة «شبح يدخن الشيشة» ابن بطة وبنت حَدَّق

كيف أحب الشابُّ وجدى ابن الست بطة الخياطة، الفتاةَ البهية نجية بنت حَدَّق الطرشجى؟، وكيف تحولت قصتهما إلى أسطورة عاش عليها أهل السويس نصف قرن من الزمان؟، وكيف انتهت قصة حبِّهما المؤثرة التى شهدت عليها شوارع بور توفيق المخملية؟، هل ماتا حقًا تحت أنقاض بيت نجية الذى دمَّره صاروخ إسرائيلى غاشم فى عام 1967؟



أمْ إن وجدى لم يكن موجودًا، ونجية كانت الوحيدة الناجية بعد القصف الذى أدى إلى انهيار بيت أبيها فى ليلة عُرسها على وجدى، ثم بعدها فقدت الذاكرة ولم يتعرف عليها أحد، وظلَّت بعدها شهورًا تحت العلاج، وعملت بعد الشفاء ممرضة فى مستشفى السويس العام، ولم تغادره إلا بعد انتهاء الحرب وفك حصار السويس فى أكتوبر عام 1973، ثم تزوَّجت من عسكرى فى الجيش المصرى فقد ساقيه وعاشت معه فى شقة متواضعة بحى الجناين حتى مات فى عام 2010؟

ولكن أين ذهب وجدى بعد أن عرف خبر مقتل خطيبته وأفراد أسرتها تحت القصف الإسرائيل»؟، هل حقًّا شاهده أحد الصيادين على شاطئ (القنال) يقذف الحجارة بقوة أملًا فى أن تصل إلى الضفة الأخرى وهو يسب جنود الصهاينة، الذين كانوا يسبحون فى مياه قناة السويس ويلهون على الشاطئ سعداء بما حققوه من نصر على الجيش المصرى؟».

هل أصابه مَسّ من الجنون، وتدهورت حالته، وصار مجذوبًا يجوب شوارع السويس الخالية بعد أن هجرها سكانها، ويبكى ويصرخ حزنًا على المدينة التى استوطنها الموت وسكنها الغربان ولم يغادروها حتى اليوم؟

ربما كان الواقع مختلفًا..

فقد هاجر وجدى مع أمِّه حزينًا إلى حى روض الفرج القاهرى الشهير، بعد أن فقد الأمل فى العثور على جُثَّة نجية تحت أنقاض بيتها المهدوم فى السويس، وسكن فى بيت مشترك مع أحد أقاربه فى «شارع السلام»، قبل أن يستقل فى بيت جديد بالشارع نفسه، ويتزوج بعدها بسنوات، وينجب أطفاله الأربعة، ويكمل حياته مثل كل الناس من بنى وطنه البسطاء، يعافر مع الأيام ويجاهد كى يكمل الرحلة فى أمان، متناسيًا نجيَّة وقصتها الشجية، حتى وصل إلى خريف العمر واحتفل بعيد ميلاده الخامس والسبعين، ثم كانت المفاجأة.

 تُرَى؛ ما الذى حدث؟

كان وجدى يقضى ليلة بين تطبيقات هاتفه المحمول، حتى وصله ذات مساء شتوى طلب صداقة على حسابه فى «فيس بوك» من حساب يحمل اسم «بنت السويس» فقبل الطلب دون تردد، وقبل أن يستوعب الموقف، تأتيه رسالة على الماسنجر نصها: «وحشتنى يا وجدى.. أنا نجية.. فاكرنى؟»، فينتفض جسده الواهن، ويرتبك وينظر حوله فى كل مكان غير مصدّق.

تزلزل الرسالة كيانه، وتعيده إلى الحياة التى كان قد زهدها بعد أن أصابه المرض الخبيث، ورفض العلاج وقرر أن ينتظر عِزْرَائِيلَ مَلَكُ الْمَوْتِ ليسدل ستار النهاية على تلك الحياة التى لم يعرف فيها طعم السعادة الحقيقة، منذ أن هجر السويس، تاركًا خلفه كل الأحلام الجميلة.

وكان وجدى قبل سنوات قد اختص مازن، حفيده الأصغر والأقرب إلى قلبه، وحكى له تفاصيل قصته مع نجية، واستمتع الحفيد بأسطورة الجد، التى كُتب لها البعث من جديد على يديه، وكأن الحكى الصادق قد استحضر روح القصة لتحلق فى فضاء وجدى الافتراضى، تبحث لها عن مكان فى حاضره بعد أكثر من نصف قرن.

توالت رسائل نجية اليومية، واستمرَّت، وأصبحت كلمة السّرّ فى عودة الروح إلى الشيخ السويسى، بعد أن غيبتها الأيام وأفعال الزمان، وبدأ يتحمس وتدب فيه الحياة، وفاجأهم جميعًا بالموافقة على العلاج.

وأجرى وجدى جراحة خطيرة لاستئصال السرطان من جسده، وتلهَّف بَعدها لإتمام مراحل العلاج فى أسرع وقت، كى يحظى بلقاء نجية كما وعدته فى رسالتها الأخيرة: «لمّا تطيب يا وجدى تبقى تيجى لى السويس عشان أشوفك».. وتكمل وضحكتها تدغدغ وجدانه العجوز: «أنت وحشتنى أوى يا راجل».

وفى موعده مع الماضى، وبعد التشافى والتعافى، وقف وجدى حائرًا على ضفة قناة السويس يقذف حجارته فى وهن، حتى أصابه اليأس من بلوغه مسافات الماضى، فجلس على صخرة قريبة من الشاطئ، بينما مازن يتابعه فى صمت.

هل التقى الحبيبان؟، أمْ أن نجية اعتذرت، واكتفت بمحادثة وجدى هاتفيًا، بعد أن فضّلت أن تبقى فى ذاكرته بصورتها القديمة الشابة، التى عشقها ونظم لها قصائد تتغنى بمفاتنها، وتتغزل فى روعة جمالها؟.. 

وهل استسلم وجدى بعد المكالمة الهاتفية، وغادر السويس قبل أن يزور حبيبته؟، وماذا فعل مازن الذى دبّر القصة لينقذ جده من الموت؟، وكيف ساعده فى الوصول إلى حبيبته؟..

التفت وجدى إلى حفيده وهو ينهض فى شموخ يترجل على شاطئ القناة: «إيه رأيك يالَه.. إنى هأعزمك على الغدا؟ هأكِّلك شوية سهلية وبربونى يستاهلوا بؤك، يلا بينا على الحلقة اللى فى الغريب نلحق قبل ما السَّمك يخلص».

وضحكا معًا ثم تأبَّط الجدُّ ذراع حفيده ومشيا سعيدين تحتضن خطواتهما رمال الشاطئ، ويتابعهما المارَّة، وفجأة علا صوت وجدى بشكل ملحوظ: «طيب إيه رأيك بقى، إنى هأكلك كمان صرمباء وبقلويظ، والنبى شكلك ما تعرفهم، ولا تعرف حاجة عن السويس.. البلد اللى غواها الغريب.. شى لله يا غريب».