
حسن عيسى
كدهوّن!.. ضحكنى من فضلك فى محبة المخرج فطين عبدالوهاب
كيف تستطيع أن تُضحك شعبًا ضاحكًا بطبعه خفيف الظل ولديه قدرة عجيبة على السخرية من كل شىء حتى من نفسه بل إنه يحول كل المواقف الصعبة والحزينة إلى ذكريات ضاحكة جدًا وفى أشد لحظات الحياة قسوة تجده يضحك ويكتم ضحكته حتى لا يكتشف الآخرون سر قوته وقدرته على مواصلة الحياة رغم كل ما يواجهه من أزمات ومشكلات وكدهون..
لعل هذا ما جعل المخرج فطين عبدالوهاب يحتل مساحة عظيمة فى وجدان كل مصرى حتى لو كان لا يعرف اسم صانع الأعمال الكوميدية التى لونت حياته بطعم الفرحة؛ ولكنه بالتأكيد يحفظها عن ظهر قلب ويستخدم إفيهات تلك الأفلام فى حياته اليومية كأحد المأثورات الشعبية التى ورثها عبر الأجيال، فمن لا يتذكر صوت هند رستم وهى تقول «يا سومة يا خاين أحبك، أعشقك، أدوب فى هواك»، أو ثقة القصرى الشديدة وهو يوصف الباز أفندى: «ده راجل ساقط التوجيهية وفاهم ومستوعب الأشياء، ده عريس أنا ذات نفسى أتمناه»، أو إسماعيل يس عندما يصرخ بأعلى صوته للعسكرى: «فتشنى فتش، فتشنى فتش»، وعندما تضحك مع زينات صدقى وهى تتحرش بـ«سُمعة» وتقول له: «إنسان الغاب طويل الناب يا أما القمر على الباب»، ومارى منيب وهى تسير داخل المشاية للأطفال وتقول: «السمانة اتشرخت والعصمة انكسرت»، وجملة إحسان الشريف الخالدة: «بلدى أوى يا حسين»، وسخرية يوسف وهبى من طبيخ زوجته المتعجرفة فيقول: «ده صنف جديد عملاه مرات عمك برجليها»، وغيرها من الإفيهات التى لا تنتهى أبدًا من أفلام فطين عبدالوهاب، ذلك المخرج الذى احتكر إضحاك المصريين من أنفسهم ومن حياتهم ومن كل شىء دون أن يجرحهم بلفظ أو فعل وكدهون.. فقد استطاع دائمًا أن يبعث بداخلهم الأمل والسعادة والضحكة البريئة من خلال قائمة طويلة من الأفلام الأبيض والأسود صنعت عالما جميلا وبريئا وشكلت وجداننا بشىء من البهجة الطفولية حتى يومنا هذا لا يزال ينبض بالحياة والمرح والسخرية ومَهما تقدمنا فى العمر نتذكر حوارات أفلامه الكوميدية وكأنها حوارات أجدادنا التى تحولت مع الوقت إحدى ذكرياتنا العائلية الدافئة جدًا بل ونتعامل مع هؤلاء. الممثلين بوصفهم أفراد أسرتنا بالفعل وكدهون.. فرغم أن الدراما قائمة أساسًا على الصراع بين الخير والشر نجد أن عالم فطين عبدالوهاب عالم طيب ويدعو للمحبة والسعادة وللإعلاء من قيمة الإنسان فى المقام الأول فى مواجهة الماديات، إنه عالم بلا أشرار حقيقيين والصراع الوحيد فى أغلب أفلامه هو صراع مع الحياة من أجل مزيد ٍمن السعادة والبهجة والمحبة والنجاح من دون وجود أى شرير كما جرت العادة فى الدراما مثلما حدث فى الأفلام (عفريت مراتى، وآه من حواء، والزوجة الـ١٣، ومراتى مدير عام، ونص ساعة جواز، وأضواء المدينة، وعروس النيل، وعائلة زيزى، وإشاعة حب، واعترفات زوج، وكرامة زوجتى) كلها أفلام بلا أشرار حقيقيين ولكنها أفلام تدعو لحب الحياة والتمسك بالسعادة كحق لكل إنسان على وجه الأرض مَهما صادف من أزمات ومشكلات فمن حقه أن يكون سعيدًا وأن يفوز بقلب فتاة جميلة وأن يحقق حلمه حتى لو بدا للبعض أنه مستحيل كحلم فؤاد المهندس فى (عائلة زيزى) بأن الماكينة تحول القطن إلى قماش مباشرة دون المرور بمراحل الغزل والنسيج ولكنه منحة سعادة تحقيق الحلم المستحيل وضحك الجمهور معه وعليه وهو يصرخ بأعلى صوته: «أنا المدير» وكدهون.. فدائما الأحلام فى عالم فطين عبدالوهاب تتحقق وتمنح الأمل فى نفوس الحائرين مثلما نجحت شادية فى فيلم (أضواء المدينة) أن تتحول لأميرة من الأسرة المالكة السابقة ثم لنجمة سينمائية رغم أنها مجرد فتاة ريفية فقيرة وشرابها مدلدل كما قال عنها أحمد مظهر فى الفيلم ولكن كعادة فطين عبدالوهاب سخر كل شىء فى الحياة لتحقيق حلمها المشروع بل وتحقق أكثر مما تمنت وتزوجت فتى أحلامها فى نهاية الفيلم وجعل كذلك عفريت الفانوس السحرى فى خدمة إسماعيل يس ذلك الشاب المقهور من مديره عبدالسلام النابلسى فيتمكن من مساعدته بفضل العفريت من تحقيق أحلامه البسيطة فى عمله والارتباط بالفتاة التى يحبها وتحقيق مشروعه الذى يتمناه، وكذلك أيضًا فعلها مع الشاب الخجول المنغلق عمر الشريف فى فيلم (إشاعة حب) فقد سخَّر كل الألاعيب الصبيانية البسيطة وغير البسيطة لكى يحقق حلم شاب بائس تهرب منه الفتيات ليتزوج من السيندريلا الجميلة حتى لو كانت حلمًا بعيد المنال فى الواقع إلا أنه قد جاء بالنجمة السينمائية من السماء لكى تساعده فى تحقيق ذلك الحلم المستحيل لينتهى الفيلم بجميع الأبطال يتبادلون الإحضان والقبلات وكأنه يوعد الجمهور بنفس المصير السعيد.. وهكذا يمتلك المخرج فطين عبدالوهاب عصا سحرية تحوّل المستحيل لممكن وتحقيق الأحلام المشروعة للبسطاء والحالمين بمستقبل أفضل وإعلاء لقيم الإنسانية ونشر الحب والمحبة بين البشر وبحياة سعيدة تخلو من الأشرار والحروب والكراهية، فنرى شخصية الجزار فى فيلم (الآنسة حنفى) غاية فى الرقة والرومانسية على عكس ما هو متوقع من تلك الشخصية التى عادة ما تكون قاسية المشاعر وتتعامل بالساطور نجده فى عالم فطين عبدالوهاب جزارًا يعشق تربية الحمَام ويطلق عليهم أسماء بشرية ويبكى بدموع غزيرة عندما يفقد إحداها بل ويتدفق حنانه على الحماَم لدرجة أنه يترك عمله ومنزله ليسافر للبحث عنه فى بلاد الله ويتعاطف بشدة مع ابنه حنفى عندما يتحول للآنسة فيفى ويغفر لها هروبها ليلة زفافها وعودتها مرة أخرى وهى حامل وبالعكس نجده يقيم لها الأفراح احتفالا بعودتها لمنزله وكدهون.. تلك الطيبة والمحبة والتسامح التى نجدها فى ذلك العالم الخاص جدًا هو سر محبتنا لأفلام فطين عبدالوهاب ولا نمل أبدًا من تكرار مشاهدة أفلامه ونحفظ حوار أفلامه ونردد إفيهاتها فى حياتنا اليومية دائما لأنها تُصدر لنا طاقة إيجابية أملاً فى حياة بلا أشرار.. وكدهون، يستمر المخرج فطين عبدالوهاب على هذا المنوال فيأخذنا معه فى رحلة رائعة فى غاية العذوب والمرح والمحبة لعالم العسكرية الصارم فى سلسلة من الأفلام الكوميدية الناجحة التى تحمل اسم إسماعيل يس فى الجيش والأسطول والطيران والبولس الحربى، فتنفجر ضحكاتنا على تصرفات إسماعيل يس الساذجة والتى تتعارض مع قوانين العسكرية الدقيقة؛ خصوصًا فى تنفيذ الأوامر، فنجد الشاويش عطية ينفعل لدرجة البكاء وهو يسأل إسماعيل بس عن مهمته على المركب إيه يا عسكرى؟ فيرد بعفوية «بولولوم» فيتقدم منه فى غضب شديد وهو يصرخ «شغلتك على المركب بولولوم؟!»، فيعود ليقول له: «عسكرى مخالى شل» لينظر له سُمعة فى سذاجة شديدة وهو يردد: «ياجدعان اللى اسمه مخالى يرد عليه د راجل شرانى وأنا عارفه»، ليبكى الشاويش عطية مرددًا جملته الشهيرة: «هو بغباوته، بوشّه العكر»، فيضحك الجمهور على تلك العلاقة التى تشبه علاقة القط بالفار، وتستمر هكذا فى كل تلك الأفلام التى تدور فى أجواء عسكرية تجعل المشاهد البسيط يستطيع أن يكون صورة إيجابية للحياة العسكرية من خلال شخصية البطل البسيط الذى تتحول شخصيته للأفضل بفضل انضمامه للجيش وتعلمه الالتزام والنظام.. وكدهون، صنع المخرج فطين عبدالوهاب بعصاه السحرية حالة من البهجة والسعادة والطاقة الإيجابية لدى المصريين فعشقوا أفلامه الكوميدية التى تعامل معها بمنتهى الجدية وأخلص لها ومنحها من روحه وسخريته ما جعلها تعيش إلى يومنا هذا وتقاوم الزمن ضحكة كبيرة على والجوه.